أثير – الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي
ربما يكون هذا العنوان من أكثر العناوين إثارة للاهتمامِ وللحيرة في الآن نفسه. فالسؤال المطروح لا إجابةَ شافيةً له أو عليه. مَن ذا الذي يستطيعُ الجزمَ وادعاءَ امتلاكِ الجوابِ اليقينيِّ الحاسم. نحن في زمن تتكسّرُ فيه الكثيرُ من اليقينيات التي نشأنا عليها واعتبرناها مسلماتٍ مطلقةً، من الفيزياءِ الكونية إلى نصائح الغذاء والصحة وما بينهما. ما كان يستقرُ سابقًا ويثبت عقودًا طويلة من الزمن وأحيانًا قرونًا كاملة، بات يتغيرُ ويتبدلُ بين ليلة وضحاها.
حقاً نحن حيال واقعٍ مُحيِّر. فمن جهة يفتح تطورُ تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي آفاقًا معرفيةً أمام البشر، وتوفر وسائل التواصل الحديثة تبادلاً برقيًا للمعلومات والآراء والأفكار، لكنها من جهة أخرى تتيح لكل مَن يشاء أن يُفتي بما يشاء. فتغدو عملية التمييز بين الصواب والخطأ، بين الحقيقة والكذب عملية شائكةً معقدةً، تحتاجُ إلى الكثيرِ من الوعيِّ والتدقيق والتمحيص. ومَن هذا الذي يملك في عصر السرعة واللهاث الوقتَ والصبرَ والرويةَ ليتبينَ الخيطَ الأبيضِ من الخيطِ الأسود؟
أخطر ما نواجهه في ميدان المعرفة والثقافة بمعناهما الشامل الواسع، هو غياب المرجعية والمعيار والسياق. مَن يُقرِّرُ مثلاً ما الذي ينبغي نشره من عدمه، مَن يُفتي بأن هذا النصّ أو ذاك جدير بالتميز والصدارة، مَن يستطيع أن يحول دون انتشار لازمة رديئة مثل: آه يا حنان (هل تذكرون فيديو آه يا حنان الذي صار ترند في حينه؟).
هل نحن حقاً في عصر “آه يا حنان”؟ ألم يقل الروائي الأورغواني إدوارد غاليانو إن وسائل التواصل أعطت الرعاع الذين يحتسون البيرة في الحانات الحق نفسه في إبداء الرأي بقضايا أدبية وعلمية أسوة بحاملي جوائز نوبل؟ بمقدار ما في هذا القول من “طبقية ثقافية”، إذا جاز التعبير، فيه أيضاً من الصواب، على الأقل لجهة توصيف الواقع.
الآن يستطيع أي شخص أن يكتب أي كلام من نوع “كنت ماراً في الحارة فرأيت فراشة تطير من شفة الجارة”. ويذيل الجملة بتوقيع جبران خليل جبران. سرعان ما سوف نحظى بالعشرات وربما بالمئات والآلاف ممن يتناقلون هذه العبارة الركيكة وهم على “يقين” أنها لجبران خليل جبران(!). قد يكتب أحدنا جملة معينة في سياق معين ودلالة محددة. سوف ينقلها شخص آخر ويستخدمها في سياق مختلف تماماً ومضاد أحياناً، من دون أدنى إشارة إلى مصدرها ومرجعها. وكيف نستطيع فهم مقولة بلا فهم الظروف والسياقات التي قيلت فيها؟ إنها حقاً معضلة!
لكن كل هذا الخبط العشواء في عالم اليوم، لا يحجب حقيقة أن التقدم التكنولوجي خصوصاً على مستوى الذكاء الاصطناعي قد فتح آفاقاً جديدةً شاسعةً أمام الإنسان المعاصر، وأتاح سهولة غير مسبوقة في الوصول إلى المعلومات. لكن ألا يمكن أن تكون المعلومات أكثر والمعرفة أقل؟ كيف؟ ببساطة اليوم لو أخذنا كلمتين من بيت شِعر نستطيع بواسطة غوغل وبكبسة زر معرفة البيت من أي قصيدة ولأي شاعر ومَن هو هذا الشاعر…إلى آخره. وهذا أمر ممتاز، قياساً بالوقت الذي كنا نحتاجه سابقاً للوصول إلى المعلومة نفسها. لكن سابقاً كنا كي نصل إلى معلومة معينة نضطر لقراءة أكثر من مرجع أو كتاب فنجمع في الطريق إليها عشرات المعلومات ونراكم وعياً ومعرفة وثقافة عامةً. هذا مجرد مثال على أن ما نعيشه اليوم من تطور هو حمّال أوجه يصعب الحسم فيها واليقين.
مقابل العشوائية والفوضى التي تتسبب بها الميديا الحديثة نجد في فسحاتها ما يعزي ويُفرح، كأن نلاحظ وجود مئات المواقع يتابعها عشرات الآلاف لأدباء وكتابٍ ومفكرين لم يعودوا موجودين بيننا: نزار قباني، محمود درويش، فدوى طوقان، غسان كنفاني، علي الوردي، عبدالله القصيمي، غازي القصيبي وسواهم ممن تركوا إرثاً إبداعياً رائعاً.
كذلك كسرت الميديا الحديثة احتكار المنابر التقليدية، الحكومية والخاصة، للنشر وتقديم التجارب. لم يعد مزاج رئيس التحرير أو المسؤول الثقافي في هذا المنبر أو ذاك هو المقرِّر على مَن يُسلَّطُ الضوء أو يُحجب. بفضل وسائل التواصل اكتشفنا مئات المبدعين العرب الشباب الذين كانوا مغيبين عن الواجهة لأسباب شتى تبدأ بالسياسة ولا تنتهي بالخصومات والأمزجة الشخصية. صحيح أن هذه الأصوات الإبداعية تختلط بجعجعة وآهات حنان وأخوتها وأخواتها، لكن الأصوات المبدعة هي الباقية في نهاية المطاف، هذا ما تعلمنا إياه حركة الواقع والتاريخ.
في النصف الملآن من الكوب نرى إيجاباً رغبة سوادٍ عظيم من مواطني الميديا الحديثة يرغب في أن يكون من معشر الشعراء والكتّاب والمفكرين والحكماء، ولا يتسنى لهذا السواد العظيم غيرُ هذا الفضاء. معظم الحكومات والمؤسسات الكبرى والشركات العابرة للقارات لا تقيم وزناً كبيراً للثقافة على مختلف أشكالها، إنه عصر التطرف على ضفتين: ضفة التكفير والغلو والتطرف الديني، وضفة اللاتفكير والتطرف الاستهلاكي والتوحش التجاري الذي ما عاد يرى الكائن البشري إنساناً بل مجرد زبون. زبون في سوبر ما ماركت كونية تدعى العولمة، وشعارها إنجوي (Enjoy)استمتع. استمتع بحواسك الخمس كلها لكن إياك أن تستعمل عقلك. أترك العقل لصنّاع العقول الصناعية!(راجع مقالة: بشرٌ أم مجرد زبائن في سوق العولمة).
أمر آخر مهم جداً، وشائك جداً، وهو أن عصر الذكاء الاصطناعي فتح الفضاء على مصراعيه لجهة التواصل بين الأفراد والجماعات. لكن أَحقاً زالت الحواجز بين الناس ولم يعد للحدود الجغرافية تلك الأهمية التي عرفناها على مَرِّ السنين؟
العالم يجري بسرعة، ما كان يحتاج سنيناً صار يحدث في أيام، وما كان يحصل في أيام لم يعد يلزمه أكثر من ثوان معدودات. المكتبة التي كانت تحتل غرفة كاملة بتنا نحملها في “جهاز” أصغر حجماً من كتاب، الأغنيات التي كانت تُسجَّل في الأسطوانات والكاسيتات صارت تُخزَّن في الهاتف الجوال أو في وسائط الواحدة منها بحجم أنملة، وقِسْ على هذا المنوال. الأهم من هذا كله تواصلٌ آخذٌ في الاتساع بين أهلِ معمورة متعددة الأعراق والثقافات. تواصلٌ ذو حدَّين، ليس بالضرورة أن يكونا متناقضين، بل لعلهما متلازمان متوازيان. من جهةٍ يتعارف الناس ويتعرَّفون على بعضهم بعضاً، بما يُضمره التعارف من فضول ورغبة باكتشاف الآخر ولو “افتراضياً” عبر الصور والكلمات. هنا لم يعد الآخر مجهولاً أو مجرداً، صار معلوماً ومعروفاً، ولئن كان الإنسان عدو ما يجهل، فإن النتيجة “المنطقية” لِـ”واقعٍ افتراضيٍّ” مستجدٍ جَعَلَ المجهولَ معلوماً هي أن يصبح العالم أقل عداوة وحروباً ونزاعات، وهذا ما لم يحدث حتى الآن. المفارقة أن ما يحدث هو العكس تماماً.
فمن جهة أخرى، يمثِّلُ هذا الانفتاح الهائل “خطراً” على الهويات القومية والثقافات المحلية ما يدفع كثيرين للانكماش والانغلاق ومحاولة سدّ النوافذ في وجه رياح “الثورة الرقمية”. برهانُ هذا “الخطر” تنامي التيارات اليمينية المتطرفة والأصوليات الدينية والعرقية في أنحاء العالم كله، ومشاعر النقمة والغضب حيال المهاجرين واللاجئين.
ما يعزّز الاتجاه الثاني من معادلةٍ حائرةٍ بين انفتاحٍ وانغلاق، هو عدم التوازن بين عالمين، واحد متقدِّم منتِج لأدوات العصر (لا نقول إنه خال كلياً من الأزمات)، وآخر رازح تحت وطأة الحروب والفقر والأمية والبطالة، مستهلِك لِكلِّ ما ينتجه العالم الأول. عالمٌ مهيمِنٌ مسيطِرٌ، وعالمٌ مهيمَنٌ ومسيطَرٌ عليه. المستغرَب أن الأول يبدو أكثر خوفاً وهلعاً، لم تعد الحروب بعيدة أو “نظيفة” كما كانت تبدو، أو كما كان يُراد لها أن تبدو. الإرهاب المعولَم بات قادراً على الضرب أنَّى ومتى يشاء، موجات الهجرة عبر بحارٍ تحوَّلت “مقابر مائية”، صارت فزاعة تخيفُ المتمسكين بـ “صفاء” مجتمعاتهم وأعراقهم، التنقل بين البلدان غدا محكوماً بهواجس الأمن ومستلزماته، الحدود الجغرافية التي خلخلتها “العولمة الافتراضية” يسعى حرَّاسها جاهدين لإعادتها إلى سيرتها وصورتها الأولين، ثم جاءت حرب أوكرانيا لتكشف هشاشة النظام العالمي وزيف الكثير من شعاراته وادعاءاته.
صحيح، ليس للحدود الجغرافية أهمية أو جدوى فيما يخص التواصل التقنيات الحديثة، لكن على الرغم من تَشكُّل ما يُشبه كوكباً افتراضياً في استطاعة “مواطنيه” التواصل فيما بينهم بلا حدود ولا رقابة، فإن حدوداً أخرى أكثر رسوخاً لا تزال تفصل بين أهل المعمورة الواحدة، حدود تترسَّخ وتتعمق وتعلو أسلاكها الشائكة، هي حدود العلم والمعرفة. لا يستوي مُنتِجُ المعرفة مع مُستهلِكها، حتى لو تواضع الأول وسعى إلى شيء من العدالة والمساواة. فكيف الحال اذا كانت مصالحه ومطامعه تدفعه إلى التمسك بهمينته وسيطرته، وتوسيع الفجوة بينه وبين الآخرين كما يحصل الآن.
لئن فهمنا أن “صناعة المعرفة” والتكنولوجيا الذكية الممكن استخدامها في جميع المجالات بلا استثناء، هي ثروة العصر لا فقط ثورته، وميدان الاستثمار المستقبلي الأهم، نستطيع أن نفهم كثيراً من التحولات المفصلية الجارية في العالم بالنار والحديد ودماء الأبرياء، ولا سيما في منطقتنا التي تراجعت مكانتها الإستراتيجية بفعل أسباب كثيرة من أبرزها تخلّفها عن إنتاج “المعرفة” بعد أن تخلَّفت أصلاً عن ركب الثورة الصناعية، وبداية أفول مكانة النفط كمحركٍ أساس لاقتصادات العالم.
تتخلخل حدود ومسلَّمات وتنشأ حدود ووقائع جديدة، والمؤسف أن حدوداً معرفية وثقافية تفصل بين عالمين هي أشدّ وأدهى من حدود الجغرافيا، وأكثر قابلية لِمزيد من التمييز والشعور بعدم العدالة والمساواة ما يؤدي إلى مزيد من العنف والكراهية في عالم بأمسِّ الحاجة إلى العدالة والإنصاف.
أخشى ما نخشاه أن العالم يتجه نحو “طبقية” من نوع جديد مختلفة عن الصراع الطبقي التقليدي بين الفقراء والأثرياء، بين المظلومين والظالمين. طبقية بين نخب تمتلك المعرفة وأدواتها المختلفة، وفي مقدمة هذه الأدوات الذكاء الاصطناعي، و”عامة” من البشر لا حيلة لها سوى التلقّي والاستهلاك والعيش على “سطح” الحياة. هنا يمكننا القول أن الثقافة تتقدم لمن يسعى إليها ويدافع عنها ويتمسك بحقه في ابتكار أدواتها وامتلاكها. وفي الوقت نفسه يعمّ الجهل بفعل سعي النخب المسيطرة إلى التحكم بمصائر الشعوب واحتكار أدوات المعرفة المتطورة، ومنع دول العالم الثالث والدول النامية من حقها في فتح أبواب المستقبل عبر التضييق عليها ومحاصرتها وإغراقها في الحروب والنزاعات المتنوعة.
لا تنحصر المسألة في ثنائية قطبية بين المعرفة والجهل، بل أولاً في مَن يسعى لاحتكار المعرفة وتعميم الجهل، وهذا بحث لا يمكن فصله عن السياسة والاقتصاد ومصالح القوى العظمى التي لم يكن ينقص ترسانتها الهائلة سوى الذكاء الاصطناعي الأشبه بالطاقة النووية لجهة استخدامه: لأجل خير البشرية أم لأجل مزيد من الخراب وتعميق الفجوة بين الشعوب والدول؟!
—————
*أجزاء من محاضرة غير منشورة قُدِّمت في مؤسسة “بحر الثقافة” في معرض أبوظبي الدولي للكتاب.