فضاءات

د.سعيد السيابي يكتب: بعد خراب مالطا

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- د.سعيد السيابي، كاتب وباحث أكاديمي في جامعة السلطان قابوس

بعض القضايا والموضوعات والعناوين تبقى في الذاكرة طويلا ويحملها على الاستمرارية بأن تصبح مثلا سائرًا، وهذا ما حدث بالضبط في مقولة (بعد خراب مالطا) ومناسبة هذه العبارة الأدبية اللامعة حدوثها فعليا؛ فقد تعرّضت جزيرة مالطا للاحتلال الفرنسي على يد نابليون بونابرت في عام 1798م، وهذا الاحتلال لم يقع إلا بعد أن دمر الجيش الفرنسي الجزيرة باستخدام القوة المفرطة مما تسبّب في هجرة جماعية لسكان الجزيرة إلى جزيرة صقلية المجاورة.
كانت مدة هذا الاحتلال قصيرة حيث استمرت عامين فقط، إلا أن الدمار الكبير الذي حدث ماديا ومعنويا لأهل مالطا كان كفيلا بتسجيل ذاكرة بشعة للطغيان، وفي محو كل ما هو له قيمة بذاكرة وطن وشعب ولم تسلم منه دور العبادة ولا شجر أو حجر.


تدخل الجيش الإنجليزي متأخرًا بعد عامين في 1800م واستطاع تحرير الجزيرة من الاحتلال الفرنسي؛ لكن ما قيمة هذا الإنقاذ أمام ما قام به وتركه المحتلّ من جروح ودمار وخراب؛ لهذا أصبحت هذه المقولة على الرغم من قسوتها تعدّ حكمة عالمية، “بعد خراب مالطا”.. بالفعل، ما الفائدة من إرجاع الحقوق أو التدخل أو الإنقاذ وغيرها من النتائج المتأخرة؟!

أمام صيت هذه المقولة التي نتذكّرها في العديد من الأحداث والقضايا المتكرّرة بما تحمله في مضمونها ورسالتها، فمتى يمكننا أن نأخذ الدروس والعبر؟ وهل مدرسة التاريخ جافّة بحيث لا نقنع أنفسنا أننا أمام ظواهر متكررة وأحداث عالمية وإقليمية ومحلية لا ينفع بعدها التدخل؟ فما حدث قد حدث، ومحاولات الرجوع للأصل أو المربع الأول لا فائدة منها، أو تكون محاولة التدخل متأخرة جدا، حتى أن الرقعة لم تعد على قياس الثوب المقطوع، والنماذج كثيرة وهي التي تعنينا، فلا ضير من مراجعة أخيرة ونداءات يقدمها العقلاء وأصحاب الحكمة والمستشارون ومن لهم قيمة معرفية ودراية منطقية، وخبرة في مجال وتخصص معين، فالحق يجب أن يستمر أصحابه بالدفع به في واجهة الحدث.

يأتي أحدهم متأخرًا بعد نهاية حدث ما، فيُقال له: (أنت حضرت بعد خراب مالطا)، فالكلام الجارح إذا خرج من اللسان يترك ندوبا فيمن قيل له حتى لو أعقب ذلك ندمٌ واعتذارٌ، فالخراب يكون قد وضع بصمته بالقول الجارح.

وهناك الأخطاء الكارثية الكبرى، كإشعال فتيل حرب يموت بسببها آلاف الضحايا، وتعود الأوطان عشرات السنين للوراء بعد تدمير اقتصادها وبناها الأساسية ومدارسها ومتاحفها ومراكزها الثقافية ومستشفياتها، وفجأة، تقف الحرب بجلوس المتخاصمين والانتهاء بالتفاوض لا يُصلح ذلك الخراب الكبير الذي حدث للإنسان قبل الحجر، فالأولى ألّا تُقدح شرارة الحرب الأولى لو استفدنا من دروس التاريخ.

مختبرات بعض الدول الكبرى تتنافس في السر والعلن فيما بينها في تصنيع أسلحة بيولوجية أكثر فتكا بالإنسان- وما تزال مستمرة-، وبعد تجارب خرجت عن السيطرة يأتون متأخرين للبحث عن حلول، كما حدث مع وباء كورونا الذي خلّف آلاف الضحايا في كل دول العالم.

وهناك الخراب والأخطاء التي تقع على مستوى الأسرة التي هي نواة المجتمع، حيث يقع الطلاق والانفصال بين شريكي الحياة الزوجية أحيانا لأسباب غير منطقية وواهية، فيستيقظ أحد الأبوين بعد مرور السنين ليرى أبناءه وقد كبروا وضاعت سنين العمر دون أن يراهم يكبرون ودون أن يكون بجوارهم في أحلامهم وعثراتهم يشد على أيديهم، فيستيقظ متأخرا ليدرك أن أطفاله ما عادوا بحاجة له واعتادوا على غيابه وهجرانه.

وكثيرة هي المراجعات الشخصية التي ينطبق عليها الوصول إلى نتيجة بعد أن وقع الفأس في الرأس، وكما قال محمود درويش: “هذا الخراب الذي بداخلي لم يولد معي، أقسم لكم أيها الناس إنهُ لم يولد معي، لقد كُنت ناصعا كغيمة، كزهرة، ولكنني كبرتُ وبدأتُ أتعرف إلى الناس”.

Your Page Title