صدمة مدريد ولشبونة من الإمام ناصر والبلوش

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- نصر البوسعيدي

وأخيرا بدأت عُمان تصحو لتتجاوز شتاتها في عهد الاستعمار البرتغالي والإسباني الجاثم على الأراضي العمانية لأكثر من 147 سنة تخللها استسلام تام للواقع بأن الساحل العماني والخليجي أصبح كله خاضعا لمملكة هرمز سابقا، ثم البرتغاليين وملكهم الإسباني فيما بعد، بداية من صور إلى القطيف لدرجة أن بعض من عايش تلك الفترة من العمانيين كانوا يسمون الساحل العماني بلاد الإفرنج!

لقد قرر مجموعة من الشرفاء في الرستاق انتخاب أحد شباب عمان الذين يرون فيه مستقبل الوحدة الوطنية التي غابت عن البلاد لعدة قرون من الحروب الأهلية التي مزقت الداخل العماني لعدة مدن يتقاسمها الأقوياء كحكام لها وكأننا في عصر الطوائف وقتها، بينما يسرح المحتل في الساحل العماني الذي حاول الأهالي فيه مقاومة إجرامه إلا أنهم فشلوا نتيجة ضعف ما يملكونه من أسلحة بسيطة أمام آلة الحرب البرتغالية الكبيرة من مدافع وبنادق لا ترحم بحقد صليبي لا ينساه التاريخ كالحاصل في فلسطين والمجازر المرتكبة ضد أهلها من قبل الاحتلال الصهيوني القذر منذ أكثر من 75 سنة وإلى يومنا هذا!
لم يهتم البرتغاليون وملكهم الإسباني بهذا الإمام الجديد الوافد على ساحة المعارك الداخلية التي كانت بالنسبة لهم أمرًا شبه مستحيل بأن تتوحد عُمان بعد شتات امتد لمئات السنين!
نعم كانوا في البدايات محقين للغاية؛ فالإمام ناصر بن مرشد الذي انتخب إماما وحاكما على عُمان عانى كثيرا هو وأصحابه المجاهدون من إقناع المدن العمانية بتلك الوحدة الوطنية المنشودة، وأولهم بعض أقاربه حكام الرستاق ونخل وبقية المدن العمانية.
ولكم أن تعلموا بأن الإمام ناصر بن مرشد استمر لأكثر من 1٥ عامًا لتوحيد الداخل العماني ليتمكن بعدها من توجيه ضرباته للاستعمار البرتغالي الإسباني المسيطر مثلما نعرف على جميع الموانئ العمانية حينها.
أما نجاحات الإمام وهو يقضي على أعدائه من الداخل لأجل الوحدة الوطنية فبدأت بعد ١٥ عاما من حكمه وكانت ترعب البرتغاليين الذين سارعوا لإرسال رسائل تحذير إلى مدريد يخبرون فيها الملك فليب الرابع عن هذا الشاب العماني القوي جدا الذي بدأ يضرب بقوة على كل من تسول له نفسه هدم اللحمة الوطنية من متنفذين وحكام من جهة وخونة لصالح المستعمر المحتل من جهة أخرى، وأراني هنا ومن خلال موسوعة الوثائق البرتغالية في بحر عمان وكأنني أتخيل صدمة الملك فليب الرابع في أواخر حكمه وهو يستقبل بمدريد الأخبار التي تتوالى عليه عن هذا الحاكم العماني الملقب بالإمام؛ فقد أرسل له نائبه بالهند رسالة طارئة في 6 مارس عام 1639م يعلمه الخبر الآتي – بتصرف-:
” جلالتكم، أود أن أعطيكم فكرة عن الأوضاع، وأخصص هذا الفصل للساحل العربي، حيث ينقسم ذلك الإقليم إلى 3 واجهات تمتد أولها من رأس الحد إلى رأس فرتك الذي يبدأ بعده مضيق البحر الأحمر الذي يوجد بداخله على ضفته اليمنى مرسى مخا وموانئ أخرى، وقد أضحت تلك الموانئ تابعة للأتراك بعد انهيار الخلافة وسقوط القاهرة العظمى في أيديهم، وكانت مناطق كثيرة بذلك القسم خاضعة للأتراك، لكن قائدا عربيا يحمل لقب إمام ثار عليهم، واستولى على السلطتين الدينية والسياسية، وتمكن بحد السيف من طرد جميع الأتراك، وانطلاقا من رأس الحد إلى الرأس الآخر الذي نسميه مسندم وجلفار، ظهر إمام عربي آخر (ناصر بن مرشد اليعربي) تمكن من الانتصار على جميع القبائل والشيوخ وباقي الأمراء المتحكمين بتلك الربوع، وبذلك أضحى العرب (العمانيون) جميعهم خاضعين لسلطة ذلك الإمام الذي احتكر السلطتين السياسية والدينية، ولقد عانى سكان المناطق المحاذية للساحل من جبروته، على خلاف ما كان عليه الحال، ومن تلك المناطق أذكر صحار وقريات ومسقط والسيب وبركاء والبداية وخورفكان ودبا والرميس وجلفار، وهي مواقع كانت من قبل تدين بالولاء لجلالتكم وتدفع لكم الضرائب، وهو ما لم يعد له اليوم وجود، وبات المتمردون يحولون دون وصول الإمدادات اللازمة”..
هل تشعرون هنا معي وقع الخبر هذا على ملك إسبانيا لحظتها وهو يقرأ الرسالة غضبان من هذا الشاب العماني الذي فاجأهم بقوته؟!
لقد وصفوا جهاده من أجل وحدة الصف العماني بالجبروت، وهذا يعكس لكم مدى قوة شخصية الإمام ناصر بن مرشد وهو يصارع على ثلاث جبهات؛ البرتغاليين، وعملائهم، وشيوخ القبائل الذين رفضوا التنازل عن سيطرتهم وامتيازاتهم في حكم بعض المدن التي تقع تحت سلطتهم!





ولا ريب أن هذه المعارك أنهكت الإمام ناصر وكيف لا وهو يصارع من أجل وحدة التراب العماني لسنوات طويلة من أجل أن تنعم البلاد بالسلام والرخاء والاستقلال، وكان من تكتيكه العسكري أن بدأ بمدن ساحل عمان لتحريرها من البرتغاليين كجلفار وخورفكان ليقطع من رأس الخليج مصادر أموال البرتغاليين ويضعف إيراداتهم وإيرادات ملكهم، ثم توجه لتحرير مسندم وبقية المدن الساحلية، لكن هذه المرة استعان بقبائل البلوش لمساندته في إكمال توحيد عمان كقوة إضافية ضاربة في جيشه، ولأنهم كانوا مؤثرين للغاية في حسم المعارك فقد تم إرسال رسالة أخرى من نائب الملك بالهند إلى العاصمة لشبونة هذه المرة بعدما استقلت البرتغال من إسبانيا عام 1640م بقيادة الملك جواو الرابع الذي تلقى الصدمة الأولى في بداية حكمه من قبل نائبه بتاريخ 17 ديسمبر من عام 1641م لخبر قوة الإمام ناصر بن مرشد وجيشه من قبائل البلوش وغيرهم فكتب:
” جلالتكم، إن الإمام ملك بلاد العرب (ناصر بن مرشد)، حسبما سبق التنبيه إلى ذلك في مناسبات أخرى، رجل طاغية وأنه يتابع سيطرته على تلك المناطق معتمدا في بداية أمره على قبائل البلوش، ثم على جيش أسسه تدريجيا من مجندين، إنه يتعامل لحد الساعة بشكل لائق معنا، على الرغم من وصول شكاوى منه خلال السنة الماضية، وقد استغل حادثا بسيطا ليأمر أنصاره بالهجوم على مسقط، غير أنه سرعان ما سحبهم، لقد ذكرته بتبعية تلك القلعة لجلالتكم وما زلت أنتظر رده”!
تمعن عزيزي القارئ بهذه الوثيقة المهمة، وانظر لأنانية هذا المستعمر وهو يصف من يحرر بلاده من ظلمهم ويوحد القلوب لصف واحد بأنه طاغية، وهذه الصفة إن أتتك من محتل فاعلم بأنها شرف ورفعة كون الإمام ناصر بن مرشد اليعربي كان قويا للغاية ولا يتوانى عن ضرب كل من يريد أن يعيد عمان إلى عصر الظلام والانقسامات، فالدماء التي سالت من أجل الوحدة الوطنية لا يريدها أن تذهب هدرا، ومن ناحية أخرى لولا شعور البرتغاليين بأن الجيش من قبائل البلوش قد حسموا الكثير من المعارك برفقة الإمام لما أرسل نائب الملك رسالة إلى لشبونة ليخصهم بالذكر بعدما استطاعوا برفقة كل الوطنيين مع الإمام دحر كل أسباب الانقسام الداخلي حينها. كما ستلاحظون أن المفاوضات بين الإمام والبرتغاليين كانت على أشدها وبالأخص بينه ونائب الملك البرتغالي من أجل التهدئة والانسحاب من مسقط، كون الإمام يحاول أن يحرز مكاسب أكبر في مدن أخرى مع مهاجمته الدائمة لمسقط ليرعب البرتغاليين بمعارك الكر والفر هناك حتى يتسنى له الانقضاض عليهم بصورة كلية بعدما يضمن وحدة البلاد من شمال عمان حتى جنوبها.
إن عمان التي نراها اليوم كانت مزيجا من ذلك التاريخ المشرف وتحديدا حينما تم انتخاب الشخصية الفذة الشاب ناصر بن مرشد اليعربي إمام عمان وحاكمها وموحدها برفقة المجاهدين والمقاومين وقادة جيوشه الأبرار في ذلك الوقت من عام 1624م حتى وفاته في عام 1649م.



Your Page Title