أثير- مكتب أثير في تونس
بقلم: محمد الهادي الجزيري
لا بدّ من محو هذا الكائن البشع المشوَّه ..هذا الذي أطالعه في شاشة التلفزة، لست عنصريا أو إقصائيا ..لكنّها الضرورة الملحة ..دفاعا عن الوجود السامي الرفيع ..، نعم لا بدّ من فعل أيّ شيء ..وأنا لا أحسن غير الكتابة ..فلتكن سلاحي سأوجّهه صوب هذا الكائن المسخ رغم ندمي الكبير على تأخّري في ردّ الفعل …
لم أكتب عنها إلا لماما..كنت كأغلب الشعراء العرب مشغول بحبيباتي وعائلتي وهواجسي ، قضيّت أكثر من أربعين سنة في ترويض الكلمات وقد نجحت في استنطاقها في كلّ المحاور التي استجوبتها فيها ..ولكني نسيت أن أسألها عن لبّ المعضلة وصميمها..، دائما ما كنت أقول إنّ لها شعراء كبار يلهجون بها وينقشون اسمها على جدران التاريخ ..، وشعراء آخرين بالآلاف يخربشون عنها كلّ الأوراق الشاشات والمساحات الفارغة..، ولا داعي للكتابة عنها فهي فلسطين التي يتغنّى بها الجميع ..، وكنت متشاغلا عن حرائقها بنار القفة كأب عائلة ونفقة الأولاد ومصروف البيت ..كما كنت على غرار عديد الشعراء مهووسا بالكتابة عن كلّ جرح عربي كالعراق وسوريا ولبنان واليمن ..، لكنّي اليوم وقد بلغت الستين من عمري وجمعت كلّ العلل والأمراض في جسدي ..، اليوم رأيت فلسطين ..أمّي الذبيحة أمام العالم الديمقراطي الحرّ..، رأيتها أشلاء ممزقة لبنت أو ولد ..، رأيتها في غصّة أب ..كأنّه يبكي الإنسانية ..وهو يرثي حاله بعد فقدان كلّ أفراد عائلته ..، المهمّ أني فهمت اليوم قبل فوات الأوان ..إن لم يفت ..، أنّ الكتابة والغناء عن غيرها يعدّ حراما ..وجريمة لا تغتفر..فقد صار واضحا كلّ شيء ..، هي الجمال الأخير الذي يراد لنا أن نشوّهه ..وننأى عنه ليستفرد به غزاة الوقت ..، إنّهم مرتزقة جلبوهم من كلّ أصقاع الدنيا ..ليستوطنوا فلسطين ..وهذا ما لن يكون أبدا ..، لا بدّ من فضحهم وتعريتهم تماما ..
قد أفلحت في عدة قصائد عن العراق وكتبت قصيدة ” تفاحة القفر ” عن سوريا وكم حبّرت عن لبنان واليمن من أوراق ..، وكتبت كثيرا في الهمّ العربي ..مثلا :
” ماذا؟
جنّ أبوكْ؟
رأى بيروت يفاحشها حيوان في رمضان
فما صام ولا صلّى
ورأى غربانا ترجم بغداد
فلاذ بقبر دون شهادةْ
يا ويلك منك ويا ويل الغابةْ “
ولكنّي سهوت عن الجرح الأكبر ..، الجرح المفتوح النازف أو لنقل أنّي كتبت قصائد قومية أشرت فيها إلى فلسطين ..مثل قصيدة ” إهدأ ” التي كتبتها عن هزائمنا الكبرى ..وقلت فيها معدّدا :
” دوّنْ في الرملِ وفي الطينْ
وعلى جسدك الباهت والمرآةْ
دوّنْ في مزق الروح
وفي صفحات العمر الجرداءْ
دوّنْ في اسفلت الطرقاتْ
وعلى الأبواب الموصودة
والأسوار الموعودة بالطوفانْ
دوّن في ما حولك من أشياء
ومن حولك من أطفال وبناتْ
دوّنْ نظرات القتلى وعناوين الحشراتْ “
إذن ..من الآن لا كتابة خاصة في الشعر ..إلا عن فلسطين المغتصبة المنهوكة على مرأى من العالم الحداثي ( المضحك حدّ البكاء )، العالم المحترم الآكل الشارب المستلقي على ظهره..والمتحدث عن فضيحته الكبرى ..عن امرأة تُنتهك حاليا فوق أنقاض بيتها وجنب أشلاء أطفالها ..بحجّة دفاعها عن حقّها في الوطن الذي افتكّ منها غصبا وظلما وعدوانا، ..من اليوم ..إن لم يفت الأوان بعد ..أنا بكلّي وببقاياي المريضة المتمسكة بالحياة ..سأكتب شعرا ونثرا عن فلسطين ..
أستودعكم الله يا سادتي القراء ..وأوصي نفسي بالهدوء كي لا أنفجر من هول ما أرى من تفنّن في التقتيل ..وما أسمع من أعاين من انبطاحات وخيانات تذهب بالعقل :
” اهدأ اهدأ
أعلم أنّك مكتظّ بالقتلى والقتلةْ
ومحاط بالقنّاصين وبالجوعى
أعلم أنّك أحزن من جيش مهزوم
وأشدّ ذهولا من طفل ضيّع أمّه في الأسواقْ
أعلم أنّك مقبور في ضيق الفقرِ
وأعلم أنّك مشتاق مشتاق مشتاقْ “