أثير- د.بوعلام محمد بلقاسمي
أثير- د.
يُعدّ خطاب صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد إلى الشعب العماني في 9 أغسطس 1970 ثالث اتصال للسلطان بشعبه بعد تحمله مسؤولية قيادة البلد نحو عصر جديد. كان أول اتصال من خلال البيان التاريخي المؤرخ في 23 يوليو 1970، تبعه الخطاب الذي ألقاه السلطان أمام الوفود المستقبلة له في مطار مسقط يوم 27 يوليو 1970.
وإذ نؤكد على كل عماني محب لوطنه بضرورة قراءة خطاب 9 أغسطس 1970 وفهمه واستيعابه، فإننا نكرر رجاءنا بأن تدرج هذه الوثيقة التاريخية في برامج وزارة التربية والجامعات والكليات بسلطنة عمان. لقد ذكرنا في مقال سابق نشر على موقع أثير (انبعاث أمة) أن خطاب 9 أغسطس يمثل محطة هامة في مسيرة الشعب العماني تشهد على ميلاد عصر النهضة العمانية الحديثة. فالخطاب وثيقة سياسية تاريخية بارزة تؤسس لما بعد 1970 وترسم الخطوط العريضة لشكل الدولة والمجتمع والاقتصاد الذي ترمي النهضة المباركة إلى تحقيقه.
بُني الخطاب حول مجموعة من المبادئ والأفكار المرجعية، في أسلوب مُتقن وواضح، وُظفت فيه الكلمات والمصطلحات لتكون أقرب ما يكون إلى واقع المجتمع ، وإلى استيعاب عامة الناس له. ليس الغرض من هذه المساهمة الخوض في التحليل السيميائي للخطاب، وإنما تعريف القارئ العماني والعربي بأهم الأفكار التي وردت في أول خطاب مباشر للسلطان قابوس إلى الشعب العماني على أمواج الإذاعة العمانية الحديثة التأسيس. وقد لخصنا تلك الأفكار في العناوين التالية :
1- المصالحة الوطنية: وتُعدُّ من أهم مرتكزات الخطاب السلطاني الذي يمد فيه السلطان يده لكل العمانيين ليساهموا في بناء ملامح عمان ما بعد 23 يوليو 1970. وكانت أولى أوامره تشكيل حكومة ” على أساس إسناد المناصب للمواطنين اللاّئقين حيثما وُجدوا، في الداخل أو الخارج “. كما وجه السلطان في خطابه التاريخي دعوة إلى ” إخواننا الذين أجبرتهم ظروف الماضي التعس إلى النزوح إلى خارج الوطن “، وإلى أولئك الذين ” بقوا على ولائهم لوطنهم “ أن يهيؤوا أنفسهم للعودة في أحضان الوطن، في حرية وأمن وأمان . وامتدت يد العفو والمصالحة إلى فئات أخرى بقوله : “عفا الله عما سلف…عفا الله عما سلف.”
المصالحة الوطنية
على أساس إسناد المناصب للمواطنين اللاّئقين حيثما وُجدوا، في الداخل أو الخارج “
إخواننا الذين أجبرتهم ظروف الماضي التعس إلى النزوح إلى خارج الوطن “
بقوا على ولائهم لوطنهم “
عفا الله عما سلف…عفا الله عما سلف.”
ولم يستثن السلطان قابوس من مشروع المصالحة شيوخ القبائل الذين أنزلهم منزلة خاصة وثمن دورهم في رعاية جماعاتهم واستتباب الأمن في البلاد، فخصص لهم رواتب نظير قيامهم بواجباتهم الوطنية، مما عزز صف المصالحة الوطنية وقوى الوحدة الوطنية.
2- توحيد رموز الدولة: كان قرار توحيد رموز الدولة والسيادة من القرارات المصيرية التي جاء بها خطاب 9 أغسطس 1970، إذ أن السلطان أبلغ الشعب بقراره وعزمه تغيير اسم الدولة إلى “سلطنة عمان” في مسعى لتوحيد كل العمانيين وكل المناطق العمانية في إطار سياديي موحد بدل الفصل بين مسقط وباقي ربوع السلطنة كما كان الحال سابقا. كما أن الاسم الجديد للسلطنة أضفى على منصب المقام العالي صفة سلطان العمانيين بدون استثناء. وظهرت عزيمة السلطان قابوس في توحيد الوطن والشعب كذلك من خلال سعيه إلى تصميم علم وطني، يكون رمز سيادة مستقلة وشعارا لكل العمانيين.
توحيد رموز الدولة
سلطنة عمان”
3- العدالة وحقوق المواطنين والحريات: من مميزات الخطاب السلطاني أنه خصص للعدالة وحقوق المواطنين حيّزًَا مهما، إذ عبرّ السلطان قابوس منذ البيان الأول أنه كان غير راض عن الاوضاع التي كان يرضخ تحتها المواطن والقيود التي كانت تشلّ حريته وتحركاته. وقد وعد السلطان رعاياه برفع كل الممنوعات التي تثقل كاهلهم في ظل حكومة قوية وعادلة، فكان بذلك مفهوم العدل مرتبط بتسهيل حياة المواطن ورفع الغبن عنه، ولا يتأتى ذلك إلا في ظل حكم قوي وعادل. ألم يكن العدل أساس الحكم في كل الأوقات والأزمنة ؟
العدالة وحقوق المواطنين
والحريات
ونستشف كذلك من الخطاب السلطاني أنه أقرن العدالة بإعطاء الرعية حقوقها والحفاظ عليها، فقرر توزيع قطع أرض “ليبني عليها الشعب بيوتا أفضل” وتشييد مشاريع صناعية وتجارية صغيرة، ليشمل مفهوم الحقوق والعدالة حرية التملك والنشاط الاقتصادي.
وفي مجال الحريات الفردية والجماعية، فقد رسخها الخطاب السلطاني بإقراره حرية المواطن العماني في التنقل داخل وخارج الوطن دون قيد أو شرط، كما رفع الكثير من الموانع على تحرك سكان مسقط داخل أسوار المدينة. ووُسعت الحريات لتشمل السماح للمواطنين اقتناء وسائل الاتصال والنقل الحديثة، مثل أجهزة الراديو والسيارات الخاصة، والحق في التعليم التدريب وفي “الترفيه المشروع“.
الترفيه المشروع
4- مكانة ودور القوات المسلحة : تقديرا لولاء وطاعة القوات المسلحة للسلطان قابوس، ركز الخطاب السلطاني على تثمين دور المؤسسة العسكرية في الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره؛ وعلى ضرورة توفير كل احتياجاته “الاستراتيجية والتكتيكية“. وتمثل أول قرار يخص القوات المسلحة في عزم السلطان نقل مقر قيادة الجيش من وادي بيت الفلج إلى منطقة معسكر المرتفعة، وهو مكان أوسع يليق بمكانة القوات المسلحة في الدولة. كما سمح للقوات الجوية باستعمال المطار المدني، في إشارة إلى أن السلطان والجيش والشعب جسد واحد ويعملون لصالح البلاد.
4-
مكانة ودور القوات المسلحة :
الاستراتيجية والتكتيكية
5- النهوض بالبنية التحية للسلطنة: أما بخصوص البرنامج التنموي الذي أعلنه السلطان قابوس في خطاب 9 أغسطس 1970، فإنه تضمن بداية تهيئة مدينتي مسقط ومطرح بمشاريع الطرق والمياه والمجاري، وفتح وادي روي ليكون امتدادا كبيرا لمدينة مطرح تُنشأُ فيها المباني التجارية وتوفر فيها التسهيلات لتفعيل نشاط الميناء، وحدّد الخطاب مكان إنشاء المطار المدني الأول في العذيبة، ليبقى مفتوحا للقوات الجوية لاستغلال تسهيلاته. وحظي ميناء مطرح باهتمام السلطان إذ أُعطيت الأوامر للشروع في دراسات بقصد “إجراء توسيع فوري فيه”. واتسعت مشاريع البنى التحتية لتشمل شبكة الطرقات في السلطنة، خاصة طريق صحار وطريق نزوى؛ أما صلالة فقد استفادت من عدة برامج بنى تحتية نذكر منها المرفأ البحري الموجه لسد الاحتياجات المدنية والعسكرية. وحظيت مسألة المياه بنصيبها من الاهتمام في الخطاب السلطاني بسبب نقصها في الكثير من أنحاء البلاد، فأمر السلطان قابوس بحفر الآبار لتلبية الحاجيات الفورية للسكان والقيام بمسح واسع لمصادر المياه في كل أرجاء البلاد. وكانت الكهرباء تشكل هي الأخرى إحدى متطلبات التنمية في الخطاب السلطاني الذي أقرّ بعودة الرقابة على شركة الكهرباء إلى الحكومة، بعد أن كانت إدارة الشركة تقيم في مقرات لها خارجة السلطنة.
النهوض بالبنية التحية للسلطنة:
6- تطوير الاقتصاد: وضع الخطاب السلطاني من النهوض بالاقتصاد العماني إحدى أولوياته، فأقر بأهمية الزراعة لضمان مستقبل البلاد وشجع على توسيع النشاط فيها برفعه القيود المفروضة على استيراد وامتلاك الآلات الزراعية بمختلف أنواعها. وأُعطيت الأوامر لإعادة تشغيل المزرعتين التجريبيتين في نزوى وصحار وإنشاء وحدة ثالثة في صلالة، مع مسح شامل لمصادر المياه في السهول وإطلاق مشاريع الري بغية توسيع مساحة الأراضي المتاحة للزراعة.
تطوير الاقتصاد
أما في مجالات التجارة والصناعة، فقد بيّنا سابقا أن الخطاب السلطاني تضمن قرارات لفتح المجال أمام العمانيين لإنشاء وتملُك مشاريع تجارية وصناعية صغيرة، وأضاف إليها تسهيلات وتحفيزات في نظام جبايةالرسوم الجمركية على الواردات من البضائع. وتوقع الخطاب السلطاني أن تؤدي التشجيعات في الحقل التجاري إلى انخفاض أسعار السلع في جميع أنحاء السلطنة. كما كان قرار السلطان قابوس بالاهتمام بالبنى التحتية في السلطنة، من إنشاء الطرق والموانئ والمطار، يرمي من بين أهدافه إلى توفير كل الشروط لانطلاق نشاط تجاري وصناعي كثيف وشامل وعادل في كل مناطق الوطن.
7- الاهتمام بالتعليم والتدريب والصحة: قدم الخطاب السلطاني واقعا مؤلماً لوضع التعليم في السلطنة، وخاطب السلطان قابوس شعبه بكثير من الصدق والصراحة باعترافه أن ” البلاد حُرمت لفترة طويلة جدّاً من التعليم “، مما أضرّ بمصالح البلاد من حيث نقص الكفاءات الإدارية والفنية العمانية والاستمرار في الاعتماد على موظفين أجانب لسد العجز في الدوائر الحكومية.
الاهتمام بالتعليم والتدريب والصحة:
من أجل ذلك وضع الخطاب السلطاني تعليم الشعب وتدريبه على رأس القضايا المستعجلة والإسراع في دراسة خطط التعليم ، لما للمسألة من ارتباط وثيق بطبيعة الحكم ومكوناته، فالهدف الأسمى الذي رسمه السلطان قابوس في خطابه هو : »حكم البلاد بالعمانيين للعمانيين«. وحظيت الصحة بدورها بنفس اهتمام التعليم في الخطاب السلطاني، إذ يُقر بضرورة تطوير هذا القطاع وتحسين الخدمات الصحية في كل أرجاء البلاد بشكل مستعجل. وهذه إشارة واضحة إلى عناية السلطان بمواطنيه وحرصه على توفير كل سبل وشروط الحياة الكريمة والمريحة لهم.
حكم البلاد بالعمانيين للعمانيين
8- دور الإعلام في تطوير المجتمع: يحتل الإعلام مكانة مرموقة في الفكر السياسي لدى السلطان قابوس بالنظر إلى أدواره الإيجابية في تمتين وحدة الوطن والشعب وتطوير المجتمع، وكونه همزة وصل بين الحاكم والرعية. لذلك قام السلطان بإنشاء محطة إذاعية مباشرة بعد توليه الحكم ( وهي المحطة التي ألقى من خلالها خطابه التاريخي إلى الشعب )، وأمر حكومته بإجراء مسح ” لاحتياجات البلاد لإذاعات الراديو والتليفزيون ” تكون وسيلة لإعلام العمانيين بما يُتخذ من قرارات وما يُنجز من مشاريع، وأدوات فعّالة في تطوير المجتمع ونشر الثقافة الوطنية الصحيحة والدفع بالتعليم العام وفوائده.
دور الإعلام في تطوير المجتمع
(
)،
9- الإعلان عن مبادئ السياسة الخارجية للسلطنة: كان الخطاب السلطاني مكملا لإعلان مبادئ السياسة الخارجية للسلطنة في العهد الجديد الذي أقره بيان 23 يوليو 1970، والتي سارت عليها سلطنة عمان منذ ذلك الوقت. ويعلن الخطاب السلطاني للشعب العماني ولكل دول العالم أن مرتكزات السياسة الخارجية لسلطنة عمان تتمحور حول مبدأ السعي إلى ربط علاقات تعاون واحترام مع جميع الشعوب وخاصة بلدان الجوار الخليجي والعربي، وإرساء جسور التشاور البناء في سبيل ” مستقبل الأمة العربية كلها”، وعدم التدخل في شؤون الغير، والمساهمة في إقرار السلم والأمن الدوليين.
الإعلان عن مبادئ السياسة الخارجية للسلطنة