تعودنا على أن السكوت علامة الرضا. لكن هذا إن صح في موقف حميم وخاص جدا فإنه غير ذلك في مطلق العلاقات وطبيعة البشر ولا ينبغي له أن يكون .
نسكت في أحيان قليلة جدا لأننا راضون عما نسمعه، أو لأن موقفنا من الوضوح رفضا أو قبولا لما نسمعه، فلا يحتاج الآخر إلى كلامنا كي يتثبت منه. ونسكت أيضا خوفا في أحيان أخرى عندما نتيقن أن ما سنقوله في تلك اللحظات سيودي بنا إلى هلاك محقق من نوع أو آخر. وربما نسكت لأننا لم نحدد موقفنا بعد فلا نعرف ماذا نقول حيث نلجأ للمهرب الآمن حتى حين؛ السكوت.
أما لماذا أصبحت أنا أفضل السكوت في الأونة الأخيرة تجاه الكثير مما أسمع فليس لواحد من تلك الأسباب السابقة بل هو العجز عن الرد. العجز النسبي أحيانا والتام أحيانا أخرى. أنا التي كنت دائما أتباهى بقدرتي اللغوية في التعبير عما أود قوله أو كتابته أصبحت أبحث عن كلماتي فلا أجدها وعن صوتي فيضيع وعن إشاراتي فتغيب وعن إيماءاتي فتتجمد حيث يبدو وجهي بليدا ومحايدا وتنفرج ابتسامتي من بين شفتي فلا أعرف معناها الحقيقي .
سكوتي ليس علامة رضاي، بل علامة عجزي عن رد قاتل! أي الرد الذي يميت الفضول للأبد. هذا بالضبط ما أريد التعبير عنه أو به تجاه ما أسمع أو أقرأ؛ رد جامع مانع إلى درجة القتل. قتل الموقف والكلمات المضادة أيضا فلا أجد فأسكت على مضض.
أصبحت فعلا أستشعر عجزي في الرد على كل سؤال يوجه لي أو تعليق يمسني أو نقاش أكون أنا طرفا فيه أو سببا له. أفترض دائما أن من يسألني أو يستدرجني نحو تعليق معين يعرف ما ينبغي علي قوله لكنه يريد سماعها مني وبطريقتي وأسلوبي وكلماتي وكأنه يريد استدراجي لأكون ضحية كلماتي. فانظر لكلماتك وهي تتحول إلى سلاح قاتل يستخدم في الانتحار وقل على عفوية الكلام السلام.
هل هو عجز حقيقي فعلا؟ أم حيلة نفسية ألجأ إليها لأنني لا أريد الدخول في نقاشات تمتد بشكل يرهقني من دون طائل حقيقي؟
لا أدري.. لكنني أعرف أنني أصبحت أعزز عشقي القديم للأسئلة كي تبقى أسئلة بلا أجوبة. أتساءل ولا أطمح بإجابة قاطعة من أحد ولا أصدقها أصلا، وأتلقى الأسئلة ولا أطمع بتلقي أية إجابات محددة ولا أصدقها إن أتت أيضا.
في الماضي كنت كلما واجهت شيئا من هذا ووجدت نفسي في خضم نقاش فردي أو جماعي سارعت إلى الرد الذي أكاد أتخيله جاهزا على لساني. أتلاعب بالمفردات وأتقلب في الحديث بين الكنايات والمجازات متحفزة لأي غلطة أو هفوة لمن يحاورني أو يسألني وكأنه عدو لا بد من الانتصار عليه في نهاية المعركة باستخدام كل الأسلحة اللغوية.
لم أكن أفكر كثيرا بتحضير كلماتي وترتيب جملي، فالمهم عندي لحظتها ألا يمضي الموقف من دون أن أرد فيقتلني الندم أو يكاد على سكوتي رغم أنني غالبا ما كنت أندم فعلا بعد أن ينتهي النقاش وتسدل ستارة النهاية على الموقف برمته وينسحب المتناقشون فأكتشف أننا أضعنا وقتنا وأرهقنا أعصابنا واستنزفنا طاقتنا في نقاش لا طائل حقيقي منه، وإن السؤال المبدئي الذي انطلق منه النقاش ظل يتيما بلا إجابة، فقد أخذت العزة بالثقة كلا منا الى الانتصار لمعلوماته وآرائه من دون الاستماع الى ما يقوله الطرف الآخر. تماما كما يحدث في برنامج فيصل القاسم الشهير ” الاتجاه المعاكس”. فهل شاهد أحد منكم حلقة واحدة من هذا البرنامج تنتهي باتفاق الطرفين مثلا؟ هل تنازل أحدهما في حلقة واحدة فقط عما جاء به إلى الحلقة واعترف للطرف الآخر في نهايتها بأنه على صواب، وأنه اقتنع بوجهة نظره بعد أن استمع إليه؟ لا أظنني شاهدت مثل هذه الحلقة على كثرة الحلقات التي تابعتها من هذا البرنامج لسنوات طوال ولا أظنكم شاهدتموها.. لأنها لم تعرض حتى الآن بالتأكيد!
مرت السنوات والاتجاه المعاكس ثابتا في وجهها ناجحا في مقاييس الاعلام على ثباته بين تطرف ضيفيه وتناقضهما الأبدى. أما أنا، كبشر آخرين، فلا أملك سوى أن أنحني أمام تصاريف الزمان واشتراطاته الحتمية، فمن الواضح أنني كلما تقدمت في العمر وجدت الزمن قد شذب الكثير من زوائدي النفسية، وأعاد نحت أطباعي بما يليق بتراكم السنين وتعاقب التجارب في يسمونه الخبرة.. واسميه العجز!