صوتي.. فضيحتي المعلنة!!
سعدية مفرح
على الذين يسمعون صوتي الليلة(*) لأول مرة في حياتهم ألا يعتقدوا بأنني مصابةٌ بالبرد وأمراض الشتاء، فهذا هو صوتي الذي كبرت جدا ولكنه لم يكبر حيث بقى فضيحتي المعلنة وشاهد السنين المزيفة، والذي كان دائما السبب الأول لرفضي الأمسيات رغم تحججي بأسباب نقدية أخرى.
بعد كل أمسية لي أخرج منها منكسرة ومهزومة بفعل الصوت الرديء والبحة المخاتلة والإلقاء الواهن، علاوة على انكسارات القصيدة، يجاملني الزملاء والأصدقاء الرجال فيقولون: “لا بالعكس.. أصلاً البحة تليق بالقصيدة”. وتجاملني الصديقات: “لا بالعكس.. أصلا صوتك مصغرك وايد”!
وكما هو واضح؛ فكل فريق يغني على ليلاه.. لكن ليلى التي هي أنا لا تقر لهم بذاكا!!
قبل كل أمسية لي كنت أسأل منظميها أولا عن مكانها؛ لا يهمني مستوى القاعة ولا عدد مقاعد الحضور ولا كيفية الوصول إليها .. المهم مكبر الصوت. اعتقادا مني انه سيكبر صوتي لكنه لم يفعل ذلك يوما ولن يفعل. لذلك سأقتنع، على مضض، بأن القصيدة لا تحتاج صوتا لكي تصل، وأنها تملك أجنحتها الخاصة، التي تستطيع الطيران بها إلى من يريدها.. خصوصا إن كانت القصيدة الأخيرة.
وأنا كل قصيدة كتبتها في حياتي كنت أظن أنها ستكون القصيدة الأخيرة!
** ** **
كنت منغمسة في قراءة ما يدور على مسرح القصيدة العربية من أحداث يختفي بعضها أحيانا وراء الكواليس حول قصيدة النثر كحديث عن لقيطة على قارعة الشعر. وكان الأمر لا يعنيني أنا التي بالكاد صدقت أنني شاعرة، وهو يقين تزعزع بعد ذلك كثيرا، أعني بعد كل قصيدة كتبتها لاحقا كانت هناك لبنة تسقط من ذلك الجدار الذي كتبت عليه لافتة “شعر” منذ أن كنت في الثانية عشرة من عمرى.
بدأت شاعرة وانتهيت لا شيء.
تتزايد القصائد ويتوالى صدور المجموعات الشعرية ولكن يقيني بالشعرية هو الذي يقل، كذلك اللغز الرائج حول الشيء الذي كلما زاد نقص، فتكون الإجابة انه الحفرة، ولا حفرة أكثر عمقا من القصيدة. أو كذلك القول الذي يردده كل من يحضر مجلس عزاء ويجد نفسا مضطرا لتعزية أهل المتوفى فيردد مع المرددين الحزانى قائلا أن “كل شيء يبدأ صغيرا ويكبر إلا الحزن الذي يبدأ كبيرا ويصغر”، وهكذا كانت قصيدتي، أو اعترافي بها، فقد بدأت قصيدة “كبيرة!” ، كما كنت أعتقد، أو على الأقل بدأت كقصيدة. لكنها صغرت كثيرا وتدريجيا حتى لتختفي بين يدي الآن، ولا أكاد أبين.
من أين يجيء الشعر؟ سؤالي الأثير الكبير الصغير
هل أقول أنه سؤالي الوحيد وأنا أعيش قصيدتي وقصائد غيري سائلةً متسائلةً؟
هذا ما يحدث فعلا.
أحاول أن أضع وصفتي الخاصة، فأدخل مطبخي الإبداعي، لأضع على الطاولة كل محتويات الأرفف والثلاجة، لكنني في النهاية أجد نفسي وقد تركت كل شيء على الطاولة لأخلق ما أريد من عدم الوجود فتسيل مياه القصيدة بين أصابعي وسط دهشتي الأزلية المتكئة على كل أدوات الاستفهام؛ من أين وكيف ومتى ولماذا!.
وبعدها يأتي من يسألني لماذا أكتب قصيدة نثر بالذات؟.
أبتسم، وكأنني أعرف الإجابة “لأدعي” أنني أكتبها لأنها أصبحت هي الأكثر قدرة على ترجمة هواجسي لفرط رهافتها ودقة تكثيفها واقتصاد مكوناتها.
أقول ذلك لأقنع نفسي بامتلاكي لناصية المعرفة وإمساكي بزمام القصيدة، لكنني في الواقع لا أملك شيئا ولا أمسك بشيء. دماغي مثقل بذكرياته ومعارفه المتراكمة، وقلبي مزدحم بمشاعر تكاد تتناقض لشدة تنوعها، ويداي عاريتان ولست متأكدة من شيء.
ما يزعجني فعلا أنني كلما انتهيت من كتابة قصيدة أتساءل إن كانت هي قصيدتي الأخيرة. أشعر أنني لن أكتب بعدها أخرى، ما دمت لا أعرف كيف أتت، وكيف اختارت شكلها الأخير، وكيف مضت من بين يدي لتنفصل بذاتها وتنظر لأسئلتي ساخرة من فكرة المعرفة برمتها وهي تدور في تلك الدائرة المسيجة بالأسئلة المستحيلة.
عزائي الليلة أنني لن أهتم بجنس القصيدة ولا بتصنيفها، لعلي سألقي قصيدة عمودية أو قصيدة تفعيلة أو قصيدة نثر أو قصيدة لا اسم ولا تصنيف لها بعد.. عموما هذا ما أحلم به أصلا. أن أكتب قصيدة لم تكتب بعد .. ولا يمكن تصنيفها.
سأحاول… والشعر محاولة.