الدكتور: سعيد بن محمد الصقري- رئيس الجمعية الاقتصادية العمانية
المرض الهولندي الذي يعرف باللغة الانجليزية the Dutch Disease أطلقته مجلة الاكونومست في الستينيات من القرن المنصرم لوصف التأثير السلبي الذي سببه ازدهار قطاع تصدير الغاز الطبيعي في هولندا على القطاعات الاقتصادية الأخرى، فأدى ازدهار قطاع تصدير الغاز في هولندا الى ارتفاع قيمة الجلدر (العملة الهولندي سابقا) مقابل العملات الأخرى، مما أثر على قدرة القطاعات الاقتصادية الأخرى على المنافسة في الأسواق العالمية، وخاصة قطاع الصناعات، وعلى إثر ذلك انكمش دور وأهمية القطاع الصناعي. بالاضافة الى ذلك، تم صرف الايرادات المتأتية من بيع الغاز على القطاعات الاقتصادية غير القابلة للتصدير مثل قطاع البناء والتشييد وعلى الاستيراد وهذا الانفاق أدى الى مضاعفة التأثير السلبي على القطاع الصناعي الهولندي.
وأصبح يطلق مصطلح المرض الهولندي على النظرية التي تبحث في تأثير ازدهار قطاع الموارد الطبيعية نتيجة اكتشاف أو تحسن وارتفاع سعرها في الاسواق العالمية على القطاعات الاقتصادية الاخرى. وحسب النظرية، يؤدي ازدهار قطاع الموارد الطبيعية إلى إعادة توزيع رؤوس الأموال والعمال على حساب القطاعات الاقتصادية الأخرى. فيؤدي ازدهار الموارد الطبيعية الى انتقال عوامل الإنتاج بما في ذلك العمال من القطاعات الاقتصادية الأخرى الى القطاع المزدهر، قطاع الموارد الطبيعية، مما يؤثر على أداء مجمل بقية القطاعات الاقتصادية. فضلا عن ذلك، يؤدي تحسن الميزان التجاري، نتيجة زيادة صادرات الموارد الطبيعية، إلى ارتفاع سعر القيمة الحقيقية للعملة، وهذا بدوره يرفع من قيمة المنتجات الصناعية والتجارية، بالمقارنة بمنتجات الدول الأخرى، فتصبح أقل تنافسية في الأسواق المحلية والدولية.
والتأثير الآخر للمرض الهولندي يتم عن طريق الإنفاق، إذ يتم انفاق الايرادات المتأتية من بيع الموارد الطبيعية على القطاعات الاقتصادية غير القابلة للتصدير مثل قطاعات الانشاء وبيع التجزئة والنقل وعلى الاستيراد مما يضاعف من التأثير السلبي على القطاعت الاقتصاية الاخرى.
ويصنف الإنتاج الاقتصادي، حسب النظرية، إلى نوعين: منتجات قابلة للتداول في الاسواق العالمية ومنتجات غير قابلة للتداول مثل الخدمات التي يجب أن يكون الطلب والانتاج عليها في الموقع نفسه وسلع ذات قيمة منخفضة بالنسبة إلى وزنها أو حجمها وبالتالي غير قابلة للتصدير بطريقة مربحة. وتشمل السلع غير القابلة للتداول مثل الكهرباء، وإمدادات المياه، وجميع الخدمات العامة، والإقامة في الفنادق، والعقارات، والبناء، أو النقل المحلي. وتخضع المنتجات القابلة للتداول لأسعار السوق الدولية بينما يحدد سعر المنتجات غير القابلة للتداول قوى السوق المحلية. واكتشاف الموارد أو ارتفاع سعرها في الاسواق العالمية يؤثر على الاقتصاد بطريقتين:
الطريقة الأولى تتم عن طريق إعادة توزيع رؤوس الأموال والعمال. وهذا يتم عندما يزداد الطلب على اليد العاملة في قطاع الموارد المزدهر، ونتيجة لذلك، يتحول العمال من القطاع الصناعي إلى قطاع الموارد الطبعية مما يؤدي إلى انخفاض إنتاج قطاع الصناعات على المدى القصير، وتراجع أهمية الإنتاج الصناعي في الاقتصاد على المدى البعيد.
والثانية تتم عن طريق الإنفاق. فيزداد الطلب على الخدمات غير المتداولة نتيجة للثروة الإضافية الناجمة عن بيع الموارد الطبيعية، وتؤدي الزيادة في الطلب على السلع والخدمات غير المتداولة إلى انتقال اليد العاملة بعيدا (تحول آخر في الطلب) عن قطاع الصناعات إلى القطاعات غير المتداولة. بالإضافة إلى ذلك، الطلب المتزايد على السلع والخدمات غير المتداولة يؤدي الى ارتفاع أسعارها. وارتفاع سعر الخدمات غير المتداولة يؤدي إلى زيادة في سعر الصرف الحقيقي. وتحدث الزيادة في سعر الصرف الحقيقي لأن قيمة سعر الصرف هي حاصل نسبة الأسعار المحلية ومستوى الأسعار الدولية، وحيث إن السوق الدولي يحدد سعر السلع المتداولة وليس السوق المحلي، يؤدي ارتفاع سعر الخدمات (القطاع غير المتداول) إلى زيادة القيمة الحقيقية لسعر الصرف. ويمكن التعبير عن سعر الصرف الحقيقي على النحو التالي:
سعر الصرف الحقيقي = السعر المحلي ÷ السعر العالمي، وعليه فإن ارتفاع السعر المحلي يؤدي إلى ارتفاع سعر الصرف الحقيقي. وهذا الارتفاع في قيمة العملة يؤثر على القدرة التنافسية للقطاع الصناعي في الأسواق العالمية مما يزيد من معاناة القطاع الصناعي.
وباختصار، فإن الآثار المشتركة للمرض الهولندي المتمثلة في انتقال الموارد وزيادة الإنفاق على الخدمات والسلع غير المتداولة تؤدي إلى إضعاف دور القطاع الصناعي في الاقتصاد. ويمكن تلخيص الأثر السلبي للمرض الهولندي على النحو التالي:
- انتقال العمال ورؤوس الأموال من القطاع الصناعي إلى قطاع الموارد الطبيعية
- انكماش القطاع الصناعي على المدى القصير
- ارتفاع الطلب على قطاع الخدمات والسلع غير المتداولة
- ارتفاع قيمة الصرف
- تراجع قطاع الصناعة في الاقتصاد
والدراسات التي قام بها المتخصصون وجدت أدلة متباينة لدعم فرضية المرض الهولندي في البلدان النامية والصناعية على حد سواء. فأظهرت بعض الدراسات بأن النمو في قطاع الصناعات التحويلية كان أبطأ في الاقتصادات القائمة على الموارد الطبيعية. ففي دراسة شاملة عبر البلدان بين عامي 1970 و 1990، أظهر ساكس ووارنر في عام 1997 بأن البلدان الغنية بالموارد الطبيعية حققت نمواً اقتصادياً اقل من البلدان الفقيرة بالموارد الطبيعية. والدراسة ترجع السبب الرئيسي لضعف أداء الاقتصادات الغنية بالموارد الطبيعية إلى ضعف أداء قطاع الصناعات التحويلية. ووجد استقصاء أجراه صندوق النقد الدولي في عام 1995 انخفاضا في قطاع الصناعات التحويلية في النرويج في الفترة 1970 – 2004 . غير انه خلصت دراسة أخرى اجريت في عام 1994 إلى أن تراجع قطاع الصناعات التحويلية يعزى جزئيا إلى انخفاض الطلب الإجمالي في الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، وبالتالي الطلب على صادرات القطاع الصناعي في النرويج.
والدراسات حول تأثير المرض الهولندي على دول مجلس التعاون الخليجي نادرة. ففي دراسة مقارنة بين المملكة العربية السعودية وبوتسوانا في عام 2001 أوضح ريتشرد أوتي في عام 2001 بأن القيمة الحقيقية للريال ارتفعت في المملكة العربية السعودية بعد الزيادة في سعر النفط بين السنوات 1974-1981 وأدى ذلك الى ارتفاع حاد في الطلب الكلي في الاقتصاد.
ومجمل القول، نظرية المرض الهولندي، مثل نظرية عدم استقرار الموارد الطبيعية، أقل تفاؤلا بمستقبل النمو الاقتصادي في البلدان التي تتمتع بوفرة في الموارد الطبيعية مقارنة بالدول الفقيرة بالموارد الطبيعية.