
سؤال يحمل اجابته كل ما عايش المدرسة حتى نهاية فترة التسعينيات من القرن الماضي ومن عاصر دورها اليوم، فأصبحت المقارنة وحديث التمايز على لسانه عندما يذكر التعليم أو يشار إليه في مجلس، فهل فعلا تغير دور المدرسة ولم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها أمام المجتمع في تربية أبنائه وتنشئة صغاره؟ وهل كان للتحولات الحاصلة في ثقافة الإنسان العماني وأنماط تفكيره وأولوياته وسلوكه، والمؤثرات الاخرى الداخلية والخارجية التي باتت تسيطر على مجريات حياته أثر في فجوة التربية التي لم تستطع المدرسة سدّها؟، هل كان للآسرة والمجتمع دور في حصول هذا التحول عندما بدأ يتدخل في المدرسة بصيغة أخرى تختلف في الأسلوب والشكل والطريقة، فأدخل فيها الذاتية والطموح والمنافسة والسمعة والشهرة؟ وهل سيظل مسار التفكير مع الجيل الحالي مستمرا حول دور المدرسة في التربية إن لم تتغير قناعات الكبار حولها؟
تساؤلات عميقة تبحث عن مسار التحول الحاصل في المدرسة العمانية، وإن كنا في الحقيقة نفتقر بعض الشيء لجوانب توثيقية ومقارنات تبرز ممارسات المدرسة ودورها في المجتمع وممارسات الطلبة والمعلمين في المدرسة عندما وصل تقديرهم لها أن كانت بيتهم الثاني الذي يحتويهم ومستراحهم الأسبوعي في نهاية اجازة الأسبوع، لتصبح المدرسة لغة جامعة لهم ورابطة وطنية ينفذون خلالها مشروعهم الذي يأملون أن يرونه في مدرستهم في الإعداد لمعرض تراثي أو تعليمي أو تشجير أو بإنشاء حديقة مدرسية بسيطة أو تأهيل مواقف السيارات أو غيرها من المبادرات التطوعية التي باتت ذكريات حياة ومسيرة انجاز تكتب اشراقتها في صفحات الأيام رصيدا لا يُنتسى وفخرا لن ينطفئ، على الرغم مما كان يصاحبها من مشقة الوصول للمدرسة مشيا على الأقدام، وما تحمله من مواقف الإخلاص والمسؤولية في أحلك الظروف عند نزول الأودية وسقوط الأمطار وهبوب الرياح والعواصف.
في أحيان كثيرة عندما نقرأ المشهد الذي قامت عليه المدرسة العمانية نصل إلى قناعات شخصية – يصعب تعميمها- بأن ممارساتنا التعليمية هي من أفقد المدرسة مسار القوة والهيبة، فمع أن صوت المدرسة هو النافذ في المجتمع، وهو نافذة المجتمع أيضا لتحقيق أي مشروع يرغب في تحقيقه، إذ عبر المدرسة تبنى المشاريع وتأتي المبادرات وتتحقق النجاحات، وحجم الصلاحيات التي أتيحت للمدرسة في الفترة الماضية، والموقع الذي كانت تشكّله في التنظيم المؤسسي بين مؤسسات الدولة المختلفة المنتشرة في الولايات، والمرجعية المستمرة من قبل مسؤولي الوحدات الحكومية للمدرسة في أي عمل ترغب في تحقيقه كاحتفالية أو نشاط ثقافي ورياضي وسياحي وخدمي وغيرها، كل ذلك وغيره كان له أثره في بقاء المدرسة في موقع القوة والصدارة ، فأنتجت المدرسة العمانية بالرغم من التحديات والصعوبات التي يواجهها الطلبة والكادر الاداري والتدريسي في الحصول على احتياجات العملية التعليمية من موازنات وموارد ووسائل تعليمية، فالمدرسة هي من تنتج الوسائل، وهي من تعيد انتاج وتركيب الطاولات والكراسي وتأثيث المدرسة، تلك فترة نعتقد بأن المجتمع ساهم في انجاحها فأكسب المدرسة الثقة، وكان لزاما عليها أن ترد هذا الجميل وتصنع مسارات إنجاز أكبر يفوق سقف التوقعات ففعلت وقدمت وأنتجت غراسا كريما وخيرا عظيما هم أبناء عمان وبناتها من يحملون على عاتقهم نهضتها وتقدمها وتطورها.
غير أن قافلة المسيرة التعليمية ماضية في طريقها بإذن الله مجريها ومرساها، لتقرأ مدرسة اليوم مسارا أخر تعيش فيه مرحلة جديدة ، فمع أن الدعم المادي والمالي واللوجستي والفني والاداري يفوق سابق عهده وهو قادر على صناعة التحول، إلا أنها افتقدت لداعم آخر نعتقد بأنه اشغلته قضايا كثيرة وطموحات اكثر ألا وهو المجتمع، فمع قناعتنا بأن الشعور المجتمعي نحو المدرسة مازال في مساره ، إلا أنه لم يكن بتلك القوة التي كانت تستحقها المدرسة، مع أننا ندرك في الوقت نفسه بأن المدرسة لم تكن بحاجة إلى المجتمع مثل حاجتها له اليوم، فما يواجهه طالب اليوم من تحديات وما يحمله من رغبات طموحات وتوقعات لا يمكن أن تقوم بها المدرسة منفصلة عن سائر المؤسسات، أو تمارس فيه دور الفردية وكأنها العصا السحرية في التغيير فذلك غير متحقق ولا يمكن الجزم به.
من هنا تبرز ملامح الاجابة عن التساؤل الذي طرحناه على ألسنة من يتحدثون عن: كان يا ما كان .. كانت هناك مدرسة في منطقة بعيدة وشاقة تعمل ليل نهار …. وكانت وكانت وكانت… ليستمر السؤال من ضيّع مساحات التواصل؟ ومن غيّر مسار التوجه؟، ومن له حق الأولوية في المتابعة والزيارة والدخول في أروقته هل المدرسة أم المؤسسات الخدمية الأخرى التي باتت يتردد عليها المجتمع ويستجدي منها القرب ويتواصل مع مسؤوليها كما كان يفعل مع المدرسة؟ نعتقد بأننا جميعا بحاجة إلى مراجعة طريقة تعاملنا مع المدرسة ونمنحها الثقة التي كنا نعتقد بأنها كانت تستحقها، ونعيد صياغة ممارساتنا الحالية نحو التعليم، هل فعلا نصنع له التميز ونبني فيه القوة، وما الذي نستطيع أن نقدمه له ليعيد مساره دوره من جديد في تربية الأجيال، فنبني على نغمات الوتر الذي نردده مسؤولية تقاسم المشترك في تعليم الأجيال، فلن تنزع التقنية ولا الفضائيات من المدرسة حق التربية، ومفردة الاستئثار المطلق لم تكن في يوم من الايام واردة في قاموس المدرسة حتى قبل الألفية الجديدة، ولكن كانت هناك قناعة بأن مساحات التغيير التي يمكن أن تصنعها المدرسة مع الأسرة قد يفوق ما يمكن أن يؤسسه غيرها إن وجد الأبناء في المدرسة الاحتواء والضمانات والمستراح والبيئة التي تبني فيهم سواعد العمل، ونقل التغيير من الأدوات والأساليب والعمليات الداخلية وطرق الاتصال والتواصل إلى سلوك الاجيال وثقافتهم ووعيهم وفكرهم وقناعاتهم وقراءتهم لعالمهم الداخلي وأمزجتهم ونظرتهم للمستقبل، كانت المدرسة في الماضي هي من يدفع فينا عزيمة الاصرار ورغبة التحدي ومواجهة الظروف، فهل سنصنع من مدرسة اليوم هذه الروح الدافعة نحو استدامة العطاء؟