أثير-د.عبدالله باحجاج
كيف ينظر لتاريخية العلاقات العمانية البريطانية ؟ و ما هو مستقبلها في ظل التحديات الجيوسياسية الجديدة – والجيواستراتيجية في ظل بروز لاعبين اقليميين جدد غرر بطموحهم الإقليمي ، وجعلهم يصدقون بإمكانية تحقيق ما كان مستحيلا للخارطة الإقليمية ، والتساؤل الذي قد يطرحه المراقب السياسي الذكي ، أو ينبغي أن يبحث فيه هذا المراقب يكمن حول ، العلاقة المتقاطعة بين إقامة هذا المؤتمر مع إقامة التمرين العسكري المشترك بين كل قوات السلطان المسلحة والأجهزة الأمنية ونظيراتها من قوات الملكية البريطانية ، فهل هناك من تفكير غائي مسبق أو على الأقل متقاطع ظرفيا ؟
التزامن زمنيا بين الحدثين يعطينا – كمراقبين – مشروعية طرح مثل تلكم التساؤلات ، إذ لا يمكن القفز فوق معطيات بارزة فوق السطح ، ونتجاهلها ، دون البحث عن خيوط تفسر تلاقيها وتقاطعها خلال المرحلة الراهنة ، وهنا لن نعتمد على المنهجية التي تتخذ من التأويل والاجتهادات وسيلة للتوصل للنتائج ، وإنما سنعتمد على التحليل العقلاني الاستقرائي لمواقف وأحداث لا تقبل إلا تفسيرا واحدا ، وليس لها محل للتأويلات ، ومن ثم الخروج منها بروى سياسية ثابتة .
نتفق من حيث المبدأ ، على أن تزامن انعقاد المؤتمر الدولي السابع للعلاقات العمانية البريطانية مع تمرين السيف السريع في نسخته الثالثة ، ليس وراءهما من حيث الزمن ، استهداف لذاته ، أي مخطط له ، لمواجهة مثل ذلكم الغرور الإقليمي بعد ما وصل مبلغا قد ينفجر فيه جنونه ، وإنما كان كل منهما حدثا مبرمجا ومستقلا لذاته عن ذات الآخر ، فالمؤتمر يحمل الرقم السابع في سلسلة المؤتمرات الدولية التي تعقدها هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية ، فمن ضمن خططها المبرمجة عقد مؤتمرين عالميين كل سنة عن علاقات الدولة العمانية التاريخية طوال القرون الماضية لدواعي التوثيق العلمي والممنهج لذاكرة الوطن من مختلف المصادر العالمية ، وتصادف هذه السنة أن جاءت العلاقات العمانية البريطانية ، موضوعا مختارا للنسخة السابقة للمؤتمر ، ومتزامنة مع السيف السريع ، هل نسمي هذا التزامن القدري ؟
ومهما يكن ، فقد بدأت لنا – كمراقب – وخاصة أثناء مشاركتنا الحالية للمؤتمر ، أنه يتم تطويع الحدثين لمواجهة مختلف السيناريوهات التي تواجه البلدين عامة ، والسلطنة خاصة ، فجاءت النسخة الثالثة لهذا التمرين ، كأكبر وأضخم تمرين للقوات البريطانية خارج بلادها ، وربما الحال نفسه لقوات السلطان المسلحة من حيث العدد ، حيث يشارك فيها قرابة (70) ألف جندي من الجانب العماني ، و(3،500) جندي بريطاني، أليس في حجم هذا العدد الكبير من رسائل سياسية عالية المستوى ؟
أما المؤتمر الذي تم افتتاحه أمس ، ففيه مجموعة رسالة سياسية واضحة وقطعية ، ومباشرة ، وينبغي التصريح بها بصوت مرتفع ، سوى من حيث مستوى الرعاية والحضور أو من حيث صدور مواقف سياسية من الجانب البريطاني حول مستقبل العلاقات العمانية البريطانية ، فهذا المؤتمر قد تم افتتاحه تحت رعاية صاحب السمو السيد هيثم بن طارق وبحضور عدد من الوزراء والوكلاء وممثلين من قطاعات مدنية وعسكرية ، امتلت بهم قاعة كبيرة في أحد فنادق الموج الحديثة ، واللافت في مستوى الحضور مشاركة مسؤولين كبار في الحكومة البريطانية ، هما وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط والسفير في مسقط ، واثنان من السفراء السابقين لبريطانيا.
وقد كانت كلمة الوزير البريطاني لشؤون الشرق الأوسط اليستر بيرت في الافتتاحية مفاجأة لكل مراقب سياسي ، فقد وضعت بصورة لا لبس فيها ، النقاط فوق الكثير من الحروف الغامضة أو لنقل حروفا تحتم المرحلة الراهنة وضع النقاط فوق حروفها لدواعي قراءاتها بعيدا عن أية تفسيرات أو تأويلات خاطئة أو ملتبسة ، فقد أكد الوزير البريطاني أن العلاقات العمانية البريطانية ثابتة ، وأنها ستظل كذلك حتى تنتهي دوران الشمس والقمر ، أي ثابتة مدى الدهر ، موضحا في الوقت نفسه ، أن العلاقات بين مسقط ولندن ستكون قوية أكثر من السابق ، وانها ستشمل كل الحقول الاقتصادية والرياضية والأكاديمية والأمنية والسياسية وعلى رأسها العسكرية ، مذكرا بعمر العلاقات بين البلدين التي لها (357) عاما ، ومعددا المشاريع المشتركة وحجم الاستثمارات البريطانية في بلادنا التي تأتي في المرتبة الثانية .
ووزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط يعبر هنا عن سياسة بريطانيا تجاه السلطنة في مرحلة إقامة تمرين السيف السريع ، وكأنه هنا يستنطق الحدث أو يعبر عنه سياسيا ، وهذا ما نقصده بتطويع الحدثين لبعث رسائل سياسية وعسكرية آنية وعاجلة وقوية ، فجاءت تصريحات الوزير لتوضيح الخط الاستراتيجي الجديد للعلاقات العمانية البريطانية في ظل الأطماع الإقليمية الجديد وما وراءها من مباركة صريحة أو مبطنة لطرف عالمي ، قد تدفع هذه المباركة إلى ارتكاب حماقات شيطانية جديدة في المنطقة .
ولن نفهم ونتفهم أبعاد تصريحات الوزير البريطاني إلا إذا ربطناها بأنها جديدة صدرت من لندن نفسها ، عندها سنأخذ هذه التصريحات ، كتعبير مستهدف في اطاره الزمني والمكاني ، فلو رجعنا بكم الى الوراء قليلا ، فسنلاحظ ان استخدام عبارة العلاقات العمانية البريطانية ” ثابتة مدى الدهر ” كانت عنوانا لكتاب صدر مؤخرا لسفيرين بريطانيين سابقين لدى السلطنة هما روبرت اليستون وستيورات لاينغ ، وقد حمل العنوان اسم العلاقة بين بريطانيا وعُمان … «ثابتة مدى الدهر»
يقول المؤلفان بان اسم الكتاب مقتبس من نص المعاهدة البريطانية العمانية التي وقعها عام 1798 جون مالكولم، ممثل الحكومة البريطانية في حينه، مع السلطان سلطان بن أحمد، ، حيث ورد في المعاهدة النص التالي “باستطاعة الصداقة بين الدولتين ان تبقى ثابتة مدى الدهر وحتى تنهي الشمس والقمر مسيرة دورانهما” .
ويبدو أن استدعاء وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط تلكم العبارة من الاتفاقية التاريخية ، وكذلك تكرارها في المؤتمر بعد استخدامها من قبل السفيرين السابقين ، ليس صدفة ، وانما رسالة قوية من لندن ، لكن لمن ؟ من المؤكد أنها لكل الاتجاهات الأربعة ، ولكل المستويات العالمية .
وهذا التلويح البريطاني المتجدد ، والمتوالي حديثا ، لا يمكن أن يكون موجها إقليميا فقط ، وانما دوليا كذلك ، وهو يتزامن أيضا مع تصريح قوي وصريح لوزير الدفاع البريطاني الذي اعتبر مؤخرا أن ” أمن بريطانيا من أمن الخليج والعكس” فهل كل هذه المواقف البريطانية عبثية بمعنى أنها خالية من أية رسائل ظرفية ؟
بل إنها أكثر من ذلك ، حيث تعني لنا ان لدى لندن الان وحدة الموقف بعد إعادة تصويب بعض الخروجات من عدد قليل من فاعليها ، جنحوا نحو الاستمالات الإقليمية المجنونة لعدم قدرتها على قراءة الثابت والمتغير في العلاقات العمانية البريطانية ، بحيث يمكننا القول بأن لدى لندن الان رؤية واضحة لعلاقاتها الخارجية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي وبعد أن اصبح جنون ترامب يفقد حلفاءه الاوروبيين ، لذلك ، فهي تلجأ هنا الى تقوية صداقاتها التاريخية ، ومن بينها دول الخليج وكندا وأستراليا ، وهنا نضع عبارة الوزير البريطاني ” أكثر من السابق ” في هذه السياق المعاصر .
وهذه الصداقة التاريخية بين مسقط ولندن / هي مدار بحث وعصف ذهني عميق في مؤتمر العلاقات العمانية البريطانية الذي سيختتم غدا الأربعاء بعد ثلاثة أيام من الدراسات المعمقة من قبل باحثين مختصين من داخل البلاد وخارجها في التاريخ والسياسة والاقتصاد ، يتم من خلالها مناقشة (43) ورقة عمل ، ويفتح لها مجالات المناقشة الحرة والشفافة ، ليس عليها قيود من المؤتمر ما لم يمارس الباحث على فكره قيودا ذاتية ، ورغم أهمية كل الأوراق البحثية المهمة التي تتناول تاريخية العلاقات العمانية البريطانية الا ان بعضها كان ينقصها الحقن الواقعية ، وكانت هذه الحقن مهمة ومطلوبة في مرحلة تقوية العلاقات العمانية البريطانية أكبر من السابق ، فما دامت لندن لها رؤية جديدة لعلاقاتها الخارجية ، فما هي رؤية بلادنا الجديدة لهذه العلاقة ؟ وهل ستكون كالسابق أم سيتم تطوير شروطها ؟
وختاما لا بد من توجيه الشكر والتقدير لهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية على جهودها العلمية والممنهجة لحفظ ذاكرة الوطن التاريخية ، وكذلك على قراءاتها السياسية للحاجة الوطنية لهذا المؤتمر في توقيته المناسب ، فهذا وعي ينم عن حس سياسي رفيع ٠