أثير- د.سالم الشكيلي
لم يكن يوم الثامن عشر من نوفمبر من عام ١٩٤٠ م ، يوما عاديا كباقي الأيام، إنه يوم استثنائي في كل شيء ، طارت فيه بُشرى الخير فوق هامات السحب ، لتُسعد كل شيخ طال به العمر ليسمع بمثل هذه البشرى، بُشرى حملتها شقشقات الطيور على أغصان أشجار النارجيل في صلالة الخير لتنقلها إلى كل مدينة وقرية، عبر أشجار النخيل السامقة المنتشرة في ربوع عمان الحبيبة .
بُشرى طارت مع نسمات الهواء العليل، في ربيع ذلك العام السعيد، قبل أن تتناقلها الألسن وأهداب الأمل ، ونظرة الكبار للمستقبل المرددة بالدعاء لمن سيحمل على عاتقه مهمة الارتقاء بعمان الخالدة ويُعيدها إلى سيرتها الأولى، فتحكي له قلعة نزوى ، وحصن جبرين ، وفلج الصائغي ، وبنت سقطرة ، و شجرة القرنفل ، والسفينة سلطانة ، والسفينة الرحماني ، وقلعتا الميراني والجلالي ، ما كانت عليه بلاده ، وما كان عليه أجداده ، وما سطره التاريخ من أمجاد عظام .
إنها بُشرى وليست ككل البشائر ، بُشرى مولد سيد عمان ، قابوس الهمام ، فأنار بقبس نوره أرجاء الوطن ليُعلن أن عمان سيسطع نورها من جديد في زمن ليس ببعيد ، فارتقبي يا عمان إعادة الماضي التليد وبناء الحاضر المجيد .
كان السلطان سعيد بن تيمور ، والد مولانا جلالة السلطان قابوس فرحا مسرورا جدا بمولوده الجديد ، وفي رسالة بعثها المغفور له السلطان سعيد إلى الحاج الزبير بن علي ، يُعلمه بهذه البشرى العظيمة، وسروره البالغ، ودعائه بأن يبارك الله في المولود الجديد ، ويُطيل في عُمره ، وأن يتمكن من تربيته وتعليمه .
إنّ يوم ميلاد جلالة السلطان قابوس المعظم ، يوم ميلاد كل عماني عاش وتربى في عهده الزاهر الميمون ، ومن حقهم وواجبهم جميعا أن يحتفلوا بهذا اليوم الخالد ، الذي لن يغيب عن الذاكرة برهة عين ولا أدنى من ذلك ولا أكثر ، فهو مولد سيد الرجال ، وأنبلهم ، وأعظمهم حكمة ، وأصدقهم نقاءً، وأكثرهم إخلاصا ، وأوصاهم شكيمة ، إنه مولد قائد أمة اشتاقت إلى المجد ، والمجد اشتاق إليها؛ ذلك أن بينهم نسبا وصهرًا ، وإن غاب كلٌ منهما عن الآخر بسبب انقسامات الوطن على نفسه .
إنه يوم مولد زعيم شعب آمن بحب عمان وطنا شامخا ناهضا يُضاهي دول العالم تطورا وتقدما ، بعد أن استوطنه الجهل والمرض ، والفقر ، وانعدام الخدمات حتى الأساسية منها ، ناهيك عن قلة مصادر الدخل للعيش للمواطن ، وفقدان الأمن سواءُ بالليل أو النهار ، حتى على بغلة بنت يومها .
وكانت السيدة الجليلة المغفور لها والدة جلالته ، ترعى تربية سيد عمان وترضعه الإيمان بالله ، وحب الوطن ، وحب أمته وشعبه ، ليعتلي عرش البلاد في قادم الأيام ، وقد أحسنت الرضاعة والتربية ، التي فاقت وزادت عليها خصال ومواهب جلالته ، فألبسه جل وعلا تاج الملك والفخار وهو في سن مبكرة ، كما ألبس سيدنا يوسف الصديق تاج الصدق والعفاف والملك وهو لا يزال صبيا في بيت عزيز مصر .
طاول جلالة السلطان قابوس المجد في عليائه، ونهل من علوم اللغة والأدب على أيدي كبار العلماء ، ما وسعه ذلك ، ثم نهل من العلوم الأخرى ما جعله جامعا لشتى علوم المعرفة ، وكانت كلية ساند هيرست العسكرية مرحلة تالية ، لتلك العلوم ،ثم الالتحاق بالعمل العسكري الميداني ، فأخذ من هذه وتلك العلوم العسكرية النظرية والعملية ، واستخلص منها معاني الضبط والربط ، والعمل الجاد الذي لا يعرف الكلل أو اليأس وحين اكتملت تلك المراحل وتزود بكل المعارف الدينية ، واللغوية والفقهية ، والسياسية ، والعسكرية ، والحياتية ، وحانت لحظة الانتصار للوطن والأمة ، اعتلى جلالته عرش السلطنة ، في الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٧٠م ، وطارت البشرى مرة أخرى لعمان بأسرها وللعالم أجمع ، في زمن لم يكن في عمان للهاتف وجود ، وللتلفاز حضور ، حتى المذياع إلا من رحم ربي وقد أُخفي المذياع عن العيون خوفا من البطش به ، وهكذا وباعتلاء جلالته عرش البلاد ، يكون نوفمبر ويوليو قد تبادل كل منهما العهد والوعد ، بأن تكون عمان واحة أمن وأمان ، وجنة رخاء واستقرار ، وستفتح ذراعيها لكل أبنائها في الداخل والخارج .
كنت في ذلك اليوم العظيم ، يوم أن وصلتنا البشرى ، في التاسعة أو العاشرة من عمري ، وفي تلك الأيام حيث الصيف ، كانت الناس تنام على سطوح المنازل ، ويومها والسماء زاهرة بنجومها ، ونسمات العليل تأتي من أشجار النخيل والليمون والأمبا ، رغم شِدة القيظ ، وبُعيد صلاة العشاء بقليل ، وقد هجعت الناس إلى مراقدها مبكرا كالعادة ، إذ بخالي رحمه الله ينادي على أبي غفر الله له وأحسن مثواه ، بصوت ملؤه الفرحة والسعادة الغامرة ، يُبشّر أبي باعتلاء مولانا السلطان قابوس مقاليد الحكم في البلاد ، فتنادت في كل الأرجاء صيحات الحمد والثناء لله على هذه النعمة المزجاة التي أنعم الله بها على عمان وشعبها ، فكان صباح اليوم التالي ، لا حديث فيه ولا كلام ، غير ترديد الحمد والثناء لله عزّ وجل على هذه الأنباء السعيدة ، وتبادل التهاني والتبريكات بهذا الحدث المجيد ، إذ البهجة والفرح والسعادة شعشعت في النفوس ، وارتسمت على وجوه الناس صغيرهم وكبيرهم ، نسائهم ورجالهم ، فبحق كان عيد الأعياد ، ويوم البدء في إعادة الأمجاد .
وفي هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ عمان الحديث ، كانت الأمة صادقة مع نفسها ومع سلطانها الجديد ، فالتفّت حوله تبايعه على المسير خلفه بخطى ثابتة وثابة وفيّة لعهدها مخلصة لولي أمرها، معلنة أنه ليس بعد اليوم شقاق ولا فتن ، وإنما وعد وعهد على العمل لينتشل عمان من دياجير الظلام التي تسربلت به.
فانطلقت نهضة البناء والتعمير، نهضة إعادة الوجود وتجديد حضارة عمان وتاريخها المجيد، نهضة قهرت المرض ، والجهل والفقر ، وانعدام الخدمات حتى الأساسية منها ، نهضة لا يقاس ما تحقق فيها بعدد السنين ، وإنما بقدر وحجم ما صنعته من إنجازات كبار على أرض عمان الماجدة . وللحديث تتمة في قادم الأيام ..
