د. رجب بن علي العويسي – خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
مجلس الدولة
دشّنت وزارة التربية والتعليم جائزة الإجادة التربوية للمعلم العماني التي حملت معها طموحات قادمة للتعليم، تنطلق من المعلم وتنمو في أدائه وتبرز في عطائه وترقى بدوافعه وتؤمن بكفاءته وتشخّص انتاجيته وتؤسّس لمبدأ التنافسية لديه، وتؤطر لمنحى الريادة في إنجازه، طموحات كثيرة واستحقاقات تتطلبها المرحلة القادمة في ظل البحث عن كل ما من شأنه جعل المعلم ركيزة الاهتمام وأولوية العمل، وتضعه أمام مسؤولية البحث عن حلول نوعية واقعية للتعليم والتحديات التي يواجهها عالمه الواسع وأحداثه المتنوعة، لتعطي الجائزة الفرصة لتقديم نتاج نوعي يرقى بالأداء التعليمي ويمهد لمرحلة أقوى في شراكة المعلم في التعليم عبر ما يقدمه من إنتاج علمي وفكري وبحثي رصين يظهر في ممارساته ومهامه وأدواره، ومبادرات مجيدة واستراتيجيات في الأداء التعليمي تضيف إليها نكهات متعددة بلون العطاء الواعي والفهم المتحقق.
ومع أن الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه قد يكون سابقا لأوانه، والحكم عليه بإجابة صريحه غير ممكنا في اللحظة، لما يحتاجه ذلك من فرص للتجريب ودخول في مسار التجربة ورصد لحيثيات نتائجها، وإتاحة الوقت لتمكين المعلمين ومجتمع التعليم من فهم المغازي الحقيقية لهذه الجائزة لتصبح ممارسة أصيلة، بالإضافة إلى قدرة الكتّاب والباحثين والمهتمين بالشأن التربوي وأساتذة الجامعات وغيرهم في استلهام محطات العطاء ورصد المواقف التي تظهر مع التطبيق ولحين اعلان النتائج والتكريم، ومع ذلك أبدو شخصيا أكثر تفاؤلا بما ستقدمه هذه الجائزة من نتائج إيجابية على مسار الأداء التعليمي عامة وجودة أداء المعلم ودافعيته بشكل خاص، لكونها مطلب المعلمين ورغبتهم الطموحة في أن تتبنى وزارة التربية والتعليم جائزة وطنية تربوية باسم المعلم موجهة إليه ونابعة منه، تصنع قيمة مضافة في مساره الوظيفي وتشخّص أداءه وتُعلي من إنجازاته وتقف عند محطات التطوير والتحول التي يرصدها واقعه.
على أن التفاؤلية التي أشرت إليها سلفا حول سقف التوقعات التي ستحققها الجائزة، نابع من أن هناك جملة من المؤشرات التي تضع الجائزة في مسار القوة والمهنية والقدرة على الوفاء باستحقاقاتها المقبلة، كمؤشر الوقت والمرجعية والمهنية والتنوع والتنويع والواقعية والتقييم والتحكيم والعمق والاتساع، ومن ذلك:
البعد المرجعي: إذ أن مرجعية الجائزة تحت اشراف مجلس التعليم الموقر كأعلى سلطة تعليمية، سوف يمنح الجائزة بعدا إشرافيا أكبر واهمية على المستوى الوطني عامة والتعليمي خاصة، ويشعر خلالها المعلم المتقدم للجائزة بحجمها وأهميتها ليس على مستوى البناء الذاتي والتأصيل التعليمي لأداء المعلم، ولكن أيضا في الاستفادة مما تطرحه في رسم سياسات تعليمية واقعية تشكل بمثابة مسار تعليمي للدفع بجهود التطوير قدما في المجالات والأجندة التي تطرحها الجائزة.
البعد الفلسفي والمفاهيمي: وجود دليل استرشادي وعملي لفلسفة عمل الجائزة سوف يضمن لها الواقعية والقدرة على الاستمرارية، بالشكل الذي يضمن أن عملية التطوير والتحديث في الاليات تتم وفق مسارات واضحة ومساقات محددة وأطر مقننة ومبررات مقنعة، بما يعزز فيها واقعية الأداء ومهنية العمل بها وبما ينعكس إيجابا على نتائجها المستقبلية، فتصبح ثقافة مجتمع تربوي واعي يقرأ فيها بعدي التقدير للكفاءة والمنافسة في رصدها، ومدخل لبلورتها في صورة الغايات والأهداف العليا التي تسعى لتحقيقها.
البعد الزمني: إذ يتيح الوقت المحدد للجائزة، والتي تمنح كل عامين دراسيين فرصة أكبر للتعمق في العمل المقدم من المعلم وارتباطه بالواقع وتجريبه للعديد من الأساليب والاستراتيجيات والتوجهات التي تتناسب مع طبيعة المواقف الصفية أو تسهم في بناء ثقافة نوعية في الصف الدراسي وتؤطر لنجاحات قادمة تظهر في انجازات الطلبة والدخول في جوانب مهمة تهم العمل التربوي تبني على سياقات أكثر إجرائية وأساليب علمية في المحاكاة وتطبيق التجارب والمختبرات التحصيلية ورصد التطور في الدراسات التتبعية أو دراسات الحالة وتجريب المبادرات المقدمة بشكل يضمن قدرة المعلم على تقديم منتج نوعي رصين وقادر على تحقيق بعدي الاحتواء والتأثير في مواقف الطلبة وقناعاتهم.
البعد المجالي ورفع سقف التوقعات: يبرز الهدف العام للجائزة في تحقيق نتائج ملموسة على الأداء التربوي، والنفاذ بمقتضيات هذا الهدف يستدعي توفير أدوات قياس لتحقيقه بالشكل المناسب، ومعنى ذلك أن الهدف من الجائزة ليس لذاته بل لمردودها على العملية التعليمة ونواتجها على كفاءة المعلم وامتلاكه أدوات التغيير وسيناريوهات صناعة البدائل وبوصلة توجيهها ، في وقت يحتاج فيه التعليم اليوم للممارسين الملهمين والفاعلين الذين ينطلقون في تحقيق أهدافه وغاياته بكل جدية وإخلاص ومهنية، وبالتالي أن تعكس كل الممارسات المرتبطة بالجائزة سواء في المدخلات أو العمليات أو المخرجات البحث عن الية تحقيق هذا الهدف والأهداف الفرعية واتقانه وضبطه بالطريقة التي يثمر فيها عن نواتج واضحة على مستوى السياسات والممارسات والخطط والبرامج .
البعد الاستراتيجي: إن تقنين الجائزة وحصرها في فئة المعلمين العمانيين على راس العمل فرصة مهمة لوضع المعلم في صورة المنافسة الجادة والتحدي القائم على تعظيم القيمة التنافسية للقدرات والمهارات الشخصية والمهنية والأدائية للمعلم، فإن هذا التوجه سوف يضمن خط سير واضح للجائزة يمنعها من التشعب الذي يؤدي إلى محدودية النواتج، فالفئة المستهدفة هم المعلمون، كونهم أكبر الفئات في الحقل التربوي، مما ستشكل الجائزة إضافة مهمة في رصيد الجهود المقدمة للمعلم العماني، ويضمن التجانس في المتقدمين للجائزة، فمثلا: تحديد أربع سنوات للمتقدمين للجائزة، بالإضافة إلى سياسة عدم التكرار في المشاركة، قد يعطي فرصا أكبر للمعلمين الاخرين في تقديم أعمال اكثر مهنية واحترافية وعمقا ورصانة في ظل تنويع الفرص وتكافؤها وفق معايير المنافسة وقبول التحدي.
ومع ما أشرنا إليه من بعض الفرص الداعمة لنجاح الجائزة وقدرتها على الاستمرارية وصناعة الفارق، إلا أن الوصول بالجائزة الى الواقع وترجمتها في حياة المعلم المهنية، يرتبط بالحاجة الى ادخال جملة من المسارات التصحيحية والتطويرية في منظومة أداء المعلم عامة والجائزة بشكل خاص وتوظيفها في تحقيق تحول على الأرض يظهر في سلوك الممارسين، والتي نشير إلى بعضها في الآتي:
تقويم أداء المعلم: إعادة النظر في منظومة تقويم أداء المعلم، والآلية التي يتم التعامل بها سواء من حيث تقارير الكفاية، أو طريقة تقييم المتابعين له أو بنود المتابعة ومجالات التقييم بالشكل الذي يضمن قدرتها على تحقيق تحول نوعي يعزز من كفاءة المعلم ويضع الجهد على الإخفاقات الحاصلة في أدائه بشكل أكثر مهنية ومصداقية بعيدا عن المزايدات أو الشخصنة.
المسار المهني للمعلم: أهمية ربط الجائزة بالمسار المهني والوظيفي للمعلم، خاصة في ظل من أبرزه دليل الجائزة من وصف ( المعلمين المجيدين) بحيث يعكس هذا المفهوم تحديد دقيق للمعلم المجيد والاستحقاقات القادمة التي يصنعها أو المحددات المرتبطة بوجوده في الميدان التعليمي وتنافسيته والثقة في قدراته، وبالتالي ينتظر المعلم من الجائزة نتاجا آخر على مساره الوظيفي والمهني أو على مسار الترقيات والحوافز والمكافآت والصلاحيات، بحيث لا تقتصر نتائج المسابقة على حصول المعلم على مبلغ رمزي أو شهادة تقدير أو درع أو جوائز تشجيعية أخرى، بل تنتقل إلى ما هو أبعد من ذلك، بما يؤكد أهمية مراجعة منظومة الحوافز والمحاسبية في الميدان التعليمي لتعملا جنبا إلى جنب في صناعة جودة المعلم.
الدور الفني للممارسين والمتابعين للمعلم: تبرز متطلبات مرحلة الفرز الأولى، الحاجة إلى تبني وزارة التربية والتعليم لاستراتيجيات أداء أكثر فاعلية في ما يتعلق بعمليات ( التحصيل الدراسي والإشراف التربوي للمعلمين والزيارات الإشرافية وقياس زمن التعلم)، وبالتالي تغيير مدروس للأنماط الاشرافية المستخدمة وإعادة تأهيل بعضها واستخدام آليات تقييم ورصد ومتابعة جديدة قادرة على تشخيص الموقف التعليمي، سواء من حيث زيادة عدد زيارات المتابعة للمعلم، أو إيجاد آليات للتقييم المستمر في اكثر من موقف تعليمي للمعلم، وتبني سياسات أكثر نضوجا وعملية وتقنينا وموضوعية في التعامل مع المفاهيم الاشرافية وتمكين المتابعين والمنفذين لها، وهذا بدوره يستدعي توجيه المشرفين التربويين والاداريين في تحقيق أعلى مسارات التقييم كفاءة وأكثرها رضا واطمأنانا للمعلم.
حاكمية الممارسة: ما أشرنا إليه في مرحلة التقييم الأولى نؤكد عليه في مرحلة التقييم الثانية ( النهائية) ويضاف إلى ذلك أن مجالات التقييم ( الممارسات التربوية، والأنشطة والفعاليات المدرسية ، والانماء المهني، والشراكة المجتمعية)، بحاجة إلى معطيات وشواهد اثبات فعلية لها في عمل المعلم تقف على الممارسة واهميتها وجودتها وكفاءتها، وليس مجرد تعبئة خانات أو مساحات في استمارة التقييم، بمعنى إلى أي مدى تعكس تلك المجالات ممارسة المعلمين اليومية، بحيث تتكيف مع الاحتياج الفعلي للموقف التعليمي وتستقرئ راي الطالب نفسه وقناعاته بكل حرية، وتستجيب لمتطلباته، وليست مجرد شكليات عامة أو كما يقال ( حبر على ورق) ، على ان مسألة تقييم المعلم في مسار الإنماء المهني قد تثير نوعا من التحدي، في ظل معرفتنا بأن هناك أعدادا كبيرة من المعلمين لم تتلقى برنامجا تدريبيا واحد في مسارها المهني، بالإضافة على نوع هذا الانماء المهني ومردوده الفعلي على ممارسة المعلم الصفية وتقييم العائد التدريبي له على المعلم الخ.
لائحة تفسيرية وتنظيمية للجائزة: أهمية إيجاد دليل تفسيري للمفاهيم والمصطلحات والآليات والتوجهات المطروحة في دليل الجائزة بالشكل الذي يضمن قدرة المقيّمين للعمل والمحكّمين له، والمتقدمين للجائزة أمام مسار واضح في عمليات التقييم والاقتناع به، تبعدها عن التخبط والعشوائية وتضعها في ميزان العدالة والرقابة والموضوعية.
ومع ذلك كله فإننا نؤكد على أن جائزة الإجادة التربوية، تحوّل نوعي في المسار الصحيح وإضافة في جهود العمل الوطني من أجل المعلم، وتبقى عملية تقييمها وسبر اعماقها راجعة إلى المعلم نفسه وقدرته على وضع محتوى العمل الذي يقدمه أو المسار المهني الذي يسلكه محل تقدير يظهر كفاءته ويبرز عطاءه اللامحدود.