أثير-د.سالم الشكيلي
أن يتجشم الحاكم مشاق وصعوبة التِرحال والسفر من منطقة الى أخرى ، فذلك دليل على عزيمةٍ وإرادةٍ صلبة. أن يتحدى الحاكم شدة الحرّ ، وقسوة البرد، للاطمئنان على شعبه ، فذلك قمة الإيثار بالنفس. أن يتحمل الحاكم العيش في خيمة في الصحراء في ظل الرياح والعواصف الرملية ، والأنواء الممطرة ، من أجل الاطمئنان على مواطنيه ، فتلك محبة مابعدها محبة. أن يتجول الحاكم في المدن والقرى ، والناس نيام فذلك إحساس بمسؤولية الراعي عن الرعية. أن يعقد الحاكم مؤتمرًا مفتوحًا مع شعبه في الهواء الطلق دون جدران أو أبواب موصدة ، ولا جدول أعمال مسبق بما سيتم مناقشته ، فذلك قمة معاني الشورى والديمقراطية. أن يحتكم أمام الحاكم المواطن والوزير على كرسي خشبي واحد ، فذلك أروع تطبيق للعدل. أن يباشر الحاكم مهام ومسؤوليات الحكم ، من مدينة هنا في هذه المحافظة ، ومدينة هناك من تلك المحافظة ، فذلك أسمى تطبيق لمنهج حديث في ممارسة شؤون الحكم والسلطة .
إنّ الحاكم الذي نتحدث عنه هنا ، حاكم في مفهوم السلطة لكنه ليس ككل الحكام ، والبلد الذي نقصده ، بلد في مصطلح الجغرافيا والحدود ، لكنه ليس ككل البلدان ، أما الحاكم فهو حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ، حفظه الله وأبقاه ، أما البلد فهي سلطنة عمان دام عزها ومجدها .
إنّ العزائم والإرادات ، لا تقاس بكثرة الكلام والأقوال ، وإنما بما يتحقق من نجاحات قهرت المستحيل ، وتخطّت خيالات العقل والأرقام والتوقعات ، ولا يمكن أن يتأتّى ذلك إلا بشعور خاص بالمسؤولية والجَلَد والصبر ، يُعرف به الرجال ومعادنهم في الشدائد والمحن .
إنّ الحاكم الذي يمارس شؤون الحكم من أجل شعبه وهو على سرير المرض ، ويقهر المرض ، حاكم يظهر جلده وصبره ليتنعّم مواطنوه والمقيمون في وطنه ، والحاكم الذي يعود من رحلة علاج طويلة وصعبة ، ويتسامى على الآلام ويقاومها ، وهو ينزل من طائرته مانعًا مرافقيه من الاقتراب منه ، حتى لا تنزل دمعة من عين طفل ، أو تجهش امرأة أو رجل عجوز بالبكاء – وهو يعلم محبتهم ومشاعرهم نحوه ويبادلهم إياها – لهو رجلٌ طبعت نفسه بحب وإيثار النفس من أجل راحة الآخرين . أيّ رجل هذا !! وأي حاكم نادرٍ هذا ؟!! لقد أعجزْتَ مصطلحات الرجولة والحاكمية في كمالات الوصف ، والإحاطة بدلالاتها ومعانيها ، والتي تجسدت فيك يا مولاي .
سلمت يامولاي من كل أذى وزادك الله عزة ومجدًا .
وفيما يتعلق بالجولات السلطانية فقد بدأت في منتصف السبعينيات من القرن الماضي ، وهي نوعان من الجولات ، إحداها غير معلنة ومفاجئة والأخرى رسمية ، كانت الجولات السرية التي يقوم بها جلالته ، لا يعلم مسبقا بها أحد ، ولا يكون بها موكب ولا حرس كحرس الملوك والرؤساء عند تنقلاتهم ، وقد تستهدف هذه الزيارة أو الجولة قرية بعينها ، أو منشأة بذاتها ، كأن يكون مستشفى أو مدرسة ، أو مصنعا ، أو محطة لتوليد الطاقة ، وكان من السهل جدا أن يلتقي أي مواطن بجلالته في هذه المواقع فيسلم عليه وهو لا يعرفه من الوهلة الأولى لبساطة الرجل العظيم في تواضعه وخلقه ، وبعد الجولة تصدر توجيهاته وأوامره السامية للوزراء والمختصين بما يراه يحقق مصلحة الوطن والمواطنين .
ومن البديع الاستشهاد هنا ، بكلام معالي الأستاذ عبدالعزيز الرواس وزير الإعلام الأسبق ، مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية ، إِذْ يَقُول :- ” إنّ جولات صاحب الجلالة ليست جولات مبرمجة ثابتة … فهناك جولات تتمّ بعيدا عن الأضواء ، وبعيدا عن الإعلان والإعلام ، وبعيدا عن مرافقة الوزراء … يترتب عليها سيل من التوجيهات والاستفسارات من جلالته – حفظه الله – لأصحاب السمو والمعالي الوزراء في مواقعهم ، حيث يستفسر ويوجه ويأمر ؛ لأنّ التنمية شغل جلالته الشاغل … إنّ جولات صاحب الجلالة ماهي إلا ترجمة حقيقية لآرائه وأفكاره التي أعلنها ”
( صحيفة عمان بتاريخ ٨/ ٣ / ١٩٩٨م ).
وهنا تتبادر إلى الأذهان الفلسفة العمانية السلطانية ، في ممارسة شؤون السلطة ، وبحكم خبرتي ودراستي ، واطلاعي على أنظمة الحكم ، وطرق ممارسة السلطة ، أكاد أجزم يقينا أن لا وجود لشبيه لهذه الجولات في العالم أجمع .
إنّ هذا النوع من الجولات غير المعلنة لها عدة مدلولات سياسية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية ، لعلّ أول هذه المدلولات ، الشعور والإحساس بمسؤولية القيادة وتجسيدها في أروع صورة من تحمل المشاق من أجل إسعاد المواطنين ، وثانيها : التزام وحرص جلالته على المتابعة الدقيقة والقريبة من كل شيء، ليتأكد بنفسه أن الأمور تسير على ما يرام ، وثالثها ، السهر على راحة المواطنين ، ورابع هذه المدلولات ، هي في البساطة المطبوعة بالطابع العُماني المميز ، تظهر فيها عفوية الفخامة وعدم التكلف في المتابعة المستمرة لشؤون الحكم والإدارة ، وخامسها ، تعزيز الوحدة الوطنية للأمة العمانية من خلال ضرب أروع وأصدق الأمثلة في البذل والعطاء والإخلاص للوطن ، هذا بالإضافة إلى كَوْن جلالته يعمل بصمت ، ولا يحب الضوضاء والبهرجة الإعلامية ، كما أن ظهور الحاكم بدون مواكب أو حرس يكشف عن الأمن والأمان والتلاحم بين الحاكم وشعبه ، ومحبة هذا الشعب لسلطانه محبة ولدت مع بزوغ فجر النهضة ، وارتوَت بالحب والإخلاص والالتفاف حول راية واحدة وقيادة واحدة وعلاقة لها طبيعة خاصة لا يفهم مكنونها وطبيعتها إلا العماني .
وللحديث تتمة إن شاء الله .