أثير-د.سالم الشكيلي
موضوع صناديق التقاعد الحكومية وعملية دمجها موضوع قديم حديث ، أشبع نقاشاً سواءً من خلال الندوات والجلسات الحوارية ، أو من خلال وسائل الإعلام المختلفة وكتابات المختصين والمتخصصين في هذا الشأن . وبحسب معرفتي فإنّ معظم الدعوات المعلنة تدعو إلى دمج صناديق التقاعد هذه ، لما لهذا الدمج من فوائد وعوائد اقتصادية كثيرة سواءً على مستوى الصناديق نفسها أم على مستوى المنتفعين منها أم على مستوى الحكومة .
ورغم قِدم الدعوات المذكورة ، إلا أننا لم نسمع جملة مفيدة مقنعة حول السبب أو الأسباب في حالة تعددها ، التي تمنع من قيام هذا المشروع الذي لو قام حقا سيكون عملاقا بكل ما للعملقة من معنى ، فمن ناحية هو سيخلق ذراعا اقتصاديا بحجم رؤوس الأموال المتكونة ، والمشاريع الاستثمارية التي سيتم اقتحامها داخليا وخارجيا من ناحية أخرى . وهذا الصمت والانكفاء عن السير قُدما في المشروع يطرح العديد من علامات الاستفهام لدى الرأي العام حاله كحال بعض المشروعات الأخرى ، التي تفتقد إلى توضيحات للمواطنين حولها ، هذا إذا كان الموضوع المشروع يحتمل فيه الأخذ والرد ، والبحث والدراسة ، لكن الأغرب أن هذا المشروع قد صدرت فيه أوامر سامية ، ولا شكّ أن الأوامر السامية لا تخرج بمنطوقها إلا بعد استيفاء كل متطلبات تنفيذها من ناحية ، ومن ناحية أخرى فهي تهدف إلى مصلحة عليا تمس الوطن والمواطن ، ولإلغاء الفجوات الهائلة مع الصناديق الأخرى .
في رأيي أن كل مبررات تأخير التنفيذ التي يسوقها ويسوّقها البعض، مثل : أن المشكلة تكمن في النصوص الإجرائية ، أو أن الأمر متعلق بكيفية الاندماج ، أو بالوضع القانوني الذي سيؤول اليه الاندماج وطريقة الإدارة والاستثمار ، غير مقبولة وغير منطقية بتاتاً ، حتى أن هناك روايات وتخمينات يذهب بعضها إلى رفض هذا الصندوق أو ذاك ، لماذا ؟ الله وحده يعلم السبب ثم ذوو الاختصاص أنفسهم . وإذا صحّت هذه الرواية الأخيرة فتلك مشكلة أكبر إذ يكشف عن غياب القرار الملزم الذي يصدر عن المرجعيات العليا في الدولة وتعويم هذه القرارات تحت قرارات فردية أو حتى مجرد إرادات ، مما يفسح المجال أمام سؤال أكبر وأعمق وأتمنى ألا يزعج البعض أو يؤول تأويلا في غير محله ، وهو ألسنا في دولة واحدة وكل مؤسساتنا تخضع للسلطة العليا في البلاد ؟ ويتفرع عن هذا السؤال سؤال آخر ،؛ ألسنا كلنا نهدف إلى تحقيق المصالح العليا للوطن وتغليبها على أية مصالح أخرى ؟ ولا يخالجني أدنى شك أنّ الإجابة عن السؤالين من الجميع ستكون بالإيجاب وليس السلب ، ولكنني أجزم أنها النظرة الضيقة للأمور عند البعض ، مما يُعقّد الخيوط أحياناً صانعا منها مشكلة غير موجودة من الأصل .
تسعة صناديق تقاعدية حكومية في البلاد ولديها رؤوس أموال ، ومع ذلك لا تشكل وحدة اقتصادية واحدة رغم وحدة الأغراض التي تسعى لتحقيقها ، إنه بحسابات العدد والعقل والمنطق وبلغة الاقتصاد ولغة علوم الاجتماع والسياسة ، تقول بكثرة الفوائد وتعددها دون أدنى شك ، وأي عائق أو صعوبة تقف وراء اكتمال حلم الاندماج يمكن كسرها إذا وجدت الإرادات وتوحدت الجهود مهما كبرت واستعصت تلك الصعوبات على الكسر ، وعلى الحكومة أن تدفع بهذا الاتجاه ، فاقتصاد اليوم ليس اقتصاد الأمس ، اليوم عصر التكتلات الاقتصادية الكبرى والأقوى في ظل المنافسات الاستثمارية الشرسة ، أضف الى هذا أن طرائق وسبل الاستثمار لا تعتمد على الطرق التقليدية القديمة ذات العوائد المالية المتواضعة ، لننظر إلى تجارب الآخرين لنأخذ منها مايفيدنا ، ولا شيء هنا سيتعارض مع خصوصيتنا ، فالموضوع محل النقاش بعيدا كل البعد عما يتعلق بالخصوصية المجتمعية . في بعض الدول يوجد صندوق واحد على مستوى الدولة ، وفي دول أخرى يوجد اثنان أحدهما للمدنيين والآخر للعسكريين ، وهي نماذج ناجحة جداً .
وإذا سلمنا بفرضية وجود صعوبات (تجاوُزاً) تعترض طريق الاندماج بين الصناديق التسعة ، فأولا ليس في عالم اليوم مستحيل ، فما توصلت إليه كافة العلوم بما فيها الاقتصادية كفيلة بإيجاد الحلول ، وثانيا أليست المدة منذ طرح الفكرة كافية وكفيلة بإنهاء كل صعب .
المصلحة الوطنية تقتضي تكثيف كافة الجهود من أجل ولادة هذا العملاق الضخم الذي سيساعد حتى الحكومة على التخفيف عن كاهلها بعض الأعباء المالية ولدينا من الخبراء والمستشارين ورجال الاقتصاد الوطنيين — وأكرر الوطنيين — مايكفي لإعطائهم فرصة ابتكار الحلول ، ولعلّ الخطوة الأولى تكمن في إصدار تشريع يلزم هذه الصناديق بالاندماج الفوري والسريع بأقصى مايمكن حتى ولو كان عن طريق إنشاء شركة قابضة فيما بينها .
إنّ التأخير أكثر في إبصار هذا المشروع يعني تفويت الفرص الاستثمارية ذات العوائد المجزية بالإضافة إلى ارتفاع كلفة الاستثمار ، ناهيك عن زيادة نسبة المخاطر في حالة الاستثمار الأحادي ، ما يعني في النهاية تضخم العجوزات الاكتوارية لدى هذه الصنادق . ومن هذا المنطلق لا بد من النظر إلى الأمور بمنظار اقتصادي بحت ، بعيداً عن الأنانية والتمسك بأفكار الاستقلالية البالية ، أو الخوف من حدوث أوهام يفترضها البعض ، فالتشريعات لم ولن تَعدم حلاً في توفير الآليات والإجراءات والسبل بحفظ اسرار كل جهة فيما يتعلق بالمنتمين إليها ، فدمح الصناديق شيء ، وماتقدمه هذه الصناديق إلى منتفعيها شيء آخر ، فلنعقد العزم ولنطرد التردد ، ولْنغلّب كثرة مكاسب ومحاسن الاندماج على قلة المخاطر المحتملة والوهمية ، الفرص والظروف لا تتكرر فلا تضيعوها ، نحن بحاجة إلى قرار جريء وسريع وحاسم وقد آن أوانه منذ سنوات وليس اليوم ، اعقَلوها واعقِلوها وتوكلوا على الله ، وهو الموفق .
ومن باب الإنصاف في الطرح ، فإنّ التنسيق القائم بين بعض الصناديق التقاعدية من ناحية الاشتراك في بعض المشروعات الاستثمارية خطوة جد ممتازة ، وهي بداية طيبة لما هو أشمل وأكثر اتساعا نحو الشراكة والاندماج المتكامل ، وليس بالضرورة أن يتم في عملية أو مرحلة واحدة ؛ بل من خلال مراحل تتواءم مع ظروف هذه الصناديق بما يحقق في النهاية الهدف المنشود .
الأمر الذي لا يقل أهمية هو اعتماد مبدأ الشفافية ، والحوكمة والرقابة حول أداء الصناديق الاستثمارية ، فالمؤمن له ، الذي يقتطع نسبة من راتبه الشهري من حقه أن يعرف مصير امواله التي تقتطع منه ، ليطمئن على وضعه عند خروجه للتقاعد ، وليس بالضرورة نشر كل التفاصيل لحساسيتها وإنما الحد الأدني مما يجب معرفته من قبل المؤمن له . وعلى ذلك لا بد من الأخذ في الاعتبار أهمية تلك التدابير للحكومة ذاتها حتى لا يأتي وقت تجد نفسها فيه أنها مجبرة على ضخ مبالغ ضخمة لتغطية العجز الذي قد يحصل لدى أي صندوق تقاعدي لا سمح الله ، وليُنظَر إلى الدراسات الاكتوارية كقياس لدرء المخاطر .
الشق الآخر المرتبط بهذا الشأن توحيد المنافع التقاعدية خصوصا وأنّ هناك أوامر سامية من لدن مقام مولانا حضرة صاحب الجلالة سلطان البلاد المعظم حفظه الله تقضي بذلك ، قد يقول قائل بأنّ طرح هذا الأمر في ظل الأوضاع الاقتصادية غير مناسب وليس وقته ، وبدون مزايدة كلنا يقدر الوضع الاقتصادي وكلنا مع الدولة في ظل الظروف الصعبة ولن يتأخر رجل واحد عن الوقوف صفا واحدا ، ولكن لم يعد توحيد المنافع التقاعدية يحتمل التأجيل لعدة أسباب ، فالأوامر السامية مضى عليها أكثر من خمس سنوات ولم تنفذ حتى حينه بل لا توجد حتى بارقة أمل للسير في تنفيذها ، ثم إنّ هذه الفوارق مضى عليها سنوات فلا التمييز توقف عن المستفيدين أكثر ، ولا المتضررين من الفوارق تم إنصافهم ، وبالتالي يظل الميزان غير معتدل بالمرة ، الكل موكول اليه وظيفة محددة يؤديها على أكمل وجه ، وليس في قاموس الوظيفة العامة وظيفة أسمى وأخرى أدنى ؛ فالكل يعمل في خدمة الوطن من دون منة ولكنها العدالة التي لا تقوم إلا على مبدأ المساواة بين الجميع ، فعمان للجميع ومن أجل الجميع ، وبحسب ماسمعت وسمعه الكثيرون بأنّ لجنة كلفت بدراسة الموضوع وانتهت منذ فترة ووضعت عدة خيارات ، فما مصير هذه الدراسة .
التمايز في المنافع التقاعدية يخلق حالة من الإحباط واليأس لدى الشريحة المصابة بهذا التمايز والفجوة الكبيرة بين موظفي الدولة الواحدة ، إلى جانب الإحساس بغياب العدالة الاجتماعية ، ويجب أن يشمل التعديل أولئك الذين خرجوا للتقاعد .
وأنا على يقين بمعرفة المعنيين لما أقوله وأعنيه .
ولذلك فإنّ توحيد المنافع التقاعدية لا يقل أهمية عن مسألة توحيد الدرجات والرواتب ولابد من النظر اليه من ذات الزوايا ، فلا فرق بين الاثنين من حيث الأهمية ، ولعل طرح فكرة اندماج الصناديق من متطلبات توحيد المنافع التقاعدية ، مع الأخذ في الاعتبار اختلاف منافع العسكرين والأمنيين عن المدنيين ولكن دون وجود فجوة عميقة .
وفي الختام أرجو ان لا يقابل هذا الطرح بشيء من الامتعاض والتأويل أو لاسمح الله بالتشكيك ، فعمان هي قبلتنا كلنا ومصلحتها في قلوبنا مع الإيمان باختلاف نظرتنا للأمور على قدر اختلاف الزوايا التي ننظر منها ، ويعلم الله لا أبغي من هذا الطرح غير مصلحة الجميع ، وأرجو أن نطبق تلك المقولة الشهيرة ، إنّ الاختلاف في الرأي لا يُفسد للود قضية .