زاوية تربوية

د.رجب العويسي يكتب: كيف يؤسس التعليم لاستدامة التنمية في فقه الأجيال؟

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة

يشكل  التعليم عالي الجودة اليوم ركيزة أساسية  في تحقيق تنمية وطنية مستدامة قادرة على التفاعل مع معطيات الواقع المعاصر واستشراف متطلبات الثورة الصناعية الرابعة ، والمساهمة في بناء منظومة التنويع الاقتصادي والاستثمار الأمثل في الموارد،  وتأصيل ثقافة الوعي في سلوك مجتمع التنمية وتعزيز اقتصادياته، وترسيخ مفاهيم الايجابية والتفاؤل لنقل الأجيال إلى مستويات عليا في الرقي الفكري والممارسة الواعية والفهم المعمق لطبيعة الدور المطلوب منه تحقيقه في عالم متغير،  وبما يمنحه لها من فرص التمكين وتنويع الخيارات وتوليد البدائل الداعمة لفهم قضايا التنمية واستيعاب اتجاهاتها وتعظيم الاستفادة من المميزات التي أوجدتها لبناء ذات الأجيال وترقية مسارات التفكير لديها  لعالم يسوده الأمن والاستقرار والتقدم والازدهار.

 وبالتالي ما يمكن أن يقدمه التعليم عبر مناهجه وطرائقه وأساليبه وأدواته وأدوار الممارسين له والمتابعين ، في  ترسيخ قناعة الأجيال بمفاهيم التنمية ومصطلحاتها وتعميق فهمها بمتطلباتها واتجاهاتها نحوها لتصبح مواقفها مؤصلة لمفهوم الانتماء للتنمية متناغمة مع التحولات الحاصلة فيها في ظل ما يرتبط بفرص الاستثمار التعليمي والبناء الفكري وصياغة الاستراتيجيات وإضافة التجديد فيها بلغته وبما يعكس خصوصيته الوطنية ويستجيب لمحددات التطوير الذي رسمته له سياسات الدولة في ظل محددات استراتيجية التعليم 2040، ورؤية عمان 2040، لتشكلان بدورهما مدخلا استراتيجيا  مهما في فهم مقتضيات التحول المطلوبة  في سلوك الأجيال نحو التنمية، ويصبح التعليم الحلقة الأقوى في تحقيق هذه المسؤولية، لما يؤصله من روح الجدية والنشاط ويبنيه من فرص الريادة والابتكار والتعلم الذاتي والقراءة، فتصبح الدافعية الناتجة عن التعليم مزيج من العطاء المعزز بروح العمل الجاد والإخلاص والمبادرة وصدق المثابرة والمنافسة.

 فإن ما قد يعرقل دور التعليم في استدامة التنمية ناتج عن فجوة الفهم والقناعة المتولدة لدى مجتمع وأولياء الأمور والطلبة ورجال المال والأعمال، حول التعليم ذاته وثقتهم في منتجه وقدرة التعليم على إعادة هندسة الواقع الذي تعيشه الأجيال في ظل إشكاليات تزايد أفواج الخريجين من مؤسسات التعليم العالي ومخرجات الدبلوم العام الباحثين عن عمل، والمستوى المتقدم من المهارات وكفايات المستقبل التي يحتاجها سوق العمل،  وعدم كفاية المفاهيم والمصطلحات التي ينتجها التعليم في تبرير سلوك التنمية وتحديد المسؤولية نحوها، أو في قدرته على توفير إجابات وافيه يمتلكها المتعلم قادرة على صناعة تحول في ذاته وتأطير توجهاته نحو التنمية بحيث يشعر بقيمتها في حياته ويدرك ممكناته في التعاطي مع تحديات الواقع وتوفير مستلزمات الحلول للكثير من التحديات والمواقف التي يتعامل معها،  هذا الأمر من شأنه الوعي بالجهود التي تبذلها مؤسسات  الدولة في قطاعات التنمية المختلفة من أجل استقرار الإنسان العماني وسعادته، وما ينتج عن هذا الشعور من تقدير للمنجز التنموي الوطني وتعميق الاستفادة منه والمحافظة عليه، لذلك يأتي النقص الحاصل في طريقة بناء هذه القناعات والاساليب المتبعة في تحقيقها ومستوى واقعيتها ومدى قدرة التعليم بكل منصاته على تشكيل شخصية الانسان الواعي لمسؤولياته الممارس لأدواره، الفاعل في بيئته والمشارك في رسم ملامح التغيير.

ويبقى على التعليم أن يُعيد النظر في سياساته وبرامجه ومنهجيته في إدارة السلوك الإنساني ومنظومة القيم والمبادئ والأخلاقيات التي يعززها في سلوك الأجيال نحو التنمية، ويكون صورة مكبرة  تصنع من الأجيال محطات استراحة لإعادة هيكلة الواقع وتصحيح الممارسات ، ليثبت في واقع حياة الأجيال شواهد تبرز مستوى التأثير والاحتواء الذي  صنعه التعليم في تشكيل شخصية الأجيال،  فإن المؤمل من التعليم أن يقدم أنموذجا واقعيا في طريقة تعامله مع هذه المتطلبات بحيث يمتلك قوة الاستثمار في المشروعات النوعية وتوظيف الصلاحيات في بناء الادوات المناسبة ومنهجيات الاداء  القادرة على التأثير في سلوك مجتمع التنمية، من خلال احتواء الفكر الخلاّق والكفاءة المجيدة وتوطين أفضل الممارسات ، وإنتاج الثقافة الرصينة والمعرفة السليمة والفكر الإبداعي الخلاق، ويبني في المواطن آمالا بإيجابية الحياة وقيمة العيش في ظلال التعايش والحوار والتسامح والوئام، وتعظيم القيمة التنافسية للتعليم عبر  بناء قدرات المتعلمين وصناعة الوظائف وتوفير الممكنات النفسية والفكرية والترويحية  الداعمة ، ويعمل على وضع إطاراً مرنا للشراكة الوالدية والمجتمعية يحدد خلالها طبيعة الممارسة المطلوبة لتثبت للتنمية وجودها وقوتها في ضمير المواطن وسلوكه، بما يغرسه فيهم من مسؤولية وإرادة ومنهجية عمل سليمة ومبادرات، ويُعمّق فيهم  روح المهنية في الاداء والالتزام بالقوانين والانظمة وترسيخ الحس الوطني في المنجز، لذلك فإن استحقاقات الثقة التي يمنحها المجتمع للتعليم ينبغي أن تبرز اليوم في النواتج النوعية التي يصنعها كنماذج عمل في مسيرة العمل الوطني تظهر في قدرة أبنائه على إدارة مشروعات التنمية وتكوين شراكات تنافسية لضمان موقع لهم في منتج التنمية.

وفي المقابل يأتي دور التعليم في انتاج الأدوات المساهمة في تعظيم القيمة التنافسية للتنمية من التحولات الحاصلة فيه، فيوطّن نفسه في ذات المواطن وأبجديات الحياة اليومية التي يعيشها والمفردات التي يعايشها، ويستثمر في الكفاءة والموارد التي يديرها، ويصنع لنفسه موقعا في خريطة التنمية، وبناء القرار الاستراتيجي النابع من تشخيص الحالة الوطنية ورصد تجلياتها على مختلف القطاعات، وضمان احتواء مدخلاتها في قناعات وثقافات واهتمامات أجيال الوطن. ويبقى  على مؤسسات الدولة المعنية رسم ملامح شراكة حقيقية فاعلة من اجل استدامة التنمية وبقاء تجلياتها في سلوك الأجيال وقناعاتهم عبر تعزيز خطوط التأثير الفكرية والدبلوماسية والتوعوية والإعلامية والقيمية والمواطنية وصناعة النماذج والمحاكاة للواقع في تحقيق نتاج فعلي يظهر على الواقع يحتوي الشباب الباحثين عن عمل أو من هم على مقاعد الدراسة  ويؤسس فيهم قيم المواطنة وبناء المشروع وتأهيل الذات، في ظل استراتيجيات عمل واضحة تؤصل لثقافة التنمية من خلال توليد مناخات الابتكار وبناء قدرات المتعلمين وتعزيز البحوث الاستراتيجية التجريبية  وغيرها.

وعليه تتأكد قيمة البعد الاستراتيجي التنموي للتعليم في إطار قدرته على استيعاب التحولات الثقافية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية والتحولات الحاصلة في الاقتصاد الناتجة عن انخفاض أسعار النفط وعدم الاستقرار الاقتصادي، أو يتعامل أيضا مع حالة الـلااستقرار التي يعيشها العالم والثغرات التي تحدثها التباينات الحاصلة في دور الرسالة الإعلامية العالمية والسياسات الغوغائية التي باتت تشكل مصير هذا العالم، والتي تصنع من التعليم كقوة في المنتج والتعبير والرصد والتحليل وقراءة الواقع واستشراف المستقبل ، بما يؤسس لحالة التناغم بين التعليم  والواقع الوطني وما يضمه من تحولات على مختلف الأصعدة. وبما يضع الأجيال أمام مسؤولية حفظ حقوق الآباء والاعتراف بما قدموه للتنمية من مآثر وشواهد اثبات ، بل والاضافة عليها بما يحفظ هوية الأجيال ويبني جسور التواصل مع عالم الآباء والأجداد ومآثرهم وتأريخهم.

Your Page Title