في حضن التوت
رسائل خانها البريد
” لا تكتبوا إليّ رسائل عن ربيع تساقطت أوراقه وعن معاناة فلسطين،
سيحكي أجيال قادمون إليّ هناك بعد عقود ”
أنوار الأنوار
محمد الهادي الجزيري
أمّ العصافير والكلمات ..هكذا يحلو لي أن أكنّيها منذ تعرفت عليها في محيط هذه الشبكة التواصلية ..، وأشهد أنّ كلّ واحد منّا يختار أصدقاءه حسب القلب والعقل قبل أيّ شيء آخر، هي أنوار الأنوار كاتبة فلسطينية تقترف الأدب حبّا فيه ..وتقدّمه على كلّ شيء …مهما كان وزنه ..فالكتابة بالنسبة لها طريقة أخرى للدفاع عن الحياة ..، وقد عرفت فيها عبر تواصلنا الفيسبوكي أمّا حنونا وربّة بيت سريالية وعاملة مجتهدة وطالبة متفوقة …وأخيرا وهو الأهم كاتبة قلقة تحبّر بياض الأوراق ببوح الذات الإنسانية ..بهواجسها وطموحاتها ..بفوضاها وشكّها واقترابها من الصوفية ..خلاصة القول ..إنها صديقة أعتزّ بها ..وأنا أقرأ الآن كتابها المعنون ” في حضن التوت ” ..وأقدّمه لكم أيها القرّاء ……….

في مفتتح السرد تخوض الكاتبة في عالم المرأة العربية ناقمة على الوضع الذي تردّت فيه جرّاء النظر إليها بدونية وشفقة ..، ففي القصص الأولى امتعاض شديد ورفض لما آلت إليه الأنثى مقابل الذكر..، فالأنوثة جرم خطير لكَمْ تعاقبت عليه المرأة هكذا دون سبب واضح، فأعداء الكائن الرقيق الجميل ليسوا فحول القبيلة فقط ..لهان الأمر..بل الأدهى والأمرّ أنّ النساء في أغلبهنّ ضدّ تحرّر المرأة وطموحاتها وارتفاع صوتها مطالبا بالمساواة والعدل ورفع الظلم عنها من قبل الرجل ..، وهذا حديث طويل ، وبعد ذلك نقرأ قصة ” حاكورة أمّ حسن ـ دعاء لفاتحة جديدة ” ونفتح بوابة الوجع الجماعي ..، يبدأ السرد من صوت الراوي يقصّ علينا هجرة امرأة مع أولادها وزوجها وهو يصرخ في وجهها كي يسكت نواحها:
” راجعين يا مرّة ” ..ولا عودة ولا رجوع ..لا شيء إلاّ التشتّت والضياع والنكبة ….
ويأخذنا الراوي أو الراوية ( فهي بنت وامرأة ..) إلى مواضيع متعلقة بالعجوز قبل وفاتها
فمن زيارتها كلّ عيد لقبر زوجها، ثمّ نواحها كلّما يئست من سماع صوت حسن في المذياع
معلنا عن وجوده..، وتشير إلى ” حاكورة ” التي يطالب الجيران أن تكتبيها بأسمائهم حتى لا تستولي عليها ” الدولة ” بعد وفاتك ..، حقيقة قصة معبّرة عن حالنا وهواننا على الناس ..، وإليكم هذا المقطع:
” حبّات حزن تقطر، وفي ذاكرتي تحفر، حتّى إذا ما استقرّت هناك عند القلب رأيتها نهرا تجمّع ثمّ فاض على ضفافه غامرا روحي، فلم أكن بعد قد اكتشفت حلما ألوذ به من كمّ الوجع إن تدفّق، بأنّي يوما ما سأحيل هذا العالم طائر رخّ قبل أن أحرقه، لعلّ من رماده ينبعث عالم أجمل”
في نصّ بعنوان ” قبل قبل البدء..بعض من وصيّة “، أشفّ حزنا عظيما ينمّ عن ذات متصدّعة ..تكتب وصاياها بحرقة وألم ..أعتقد أنّ أنوار تكتب عنّا ما نخفيه في بواطننا ولا تخفي شيئا حتّى رفضها الواقع المرّ المريض ..
” لا تختلفوا على الإرث، لن أترك غير أطفال كبروا على عجل وقصاصات نصوص لم تُنشر من شدّة القنوط، وأوزار لا تعنيَ لأحد شيئا، وشهادات سرقتني ولم أسرقها، وكتب ستفرح بالغبار ريثما يحتاجون مكانها لمشاريعهم ”
” ثمّة ضحكة عالقة بين فكيّ منذ عقود، لا تنتزعوها رجاء فقد ادخرّتها لقبري ”
هنالك قصة شدّتني كثيرا لأنها تنهل من الرمزية والإيحاء ..عنوانها ” جدّي والغيلان ” ففيها أطلقت أنوار العنان لنفسها في سهول الرمز ..فما لا يقدر عليه النصّ المباشر والتقريري ..يمكن أن نخضعه لأدوات أخرى كالتلميح والتلويح ..خاصة إذا كنّا محاصرين بقوم لا يفقهون شيئا ..، فنبتعد عن تسمية الأشياء بأسمائها كي لا يرجمنا من ندعوهم للحبّ والعطاء والصواب بعيدا عن كلّ وهم مقيت..، لذا لجأت في هذا المتن الموجع إلى الرمز حتّى تتفاعل مع قرائها دون خوف أو ريبة ..ولعلّها اختارت الأسلوب الإيحائي عن اقتناع ودراية ..ولعلّ لها فيه مآرب أخرى …نترككم مع مقطع من ” جدّي والغيلان ” :
” ..ولمّا أيقنت أنّ حكايات الغولة الملعونة لا تشبه ما رواه عنها جدّي ، عدت أهمس لإخوتي بما رأيت فصفعوني شاتمين، لملمت خوفي والاندهاش وأقسمت سرّا بأنّي سأهبط غابتها كلّ حين، وأبحث عن كلّ ثمر أجده هناك ..”