المشي على شفرة حادّة
باكورة أعمال مراد ساسي
محمد الهادي الجزيري
يبدأ نسيج الرواية باسم ” بحريّة ” حبيبة الطفولة والشباب الأوّل..التي تخيّر الموت بعيدا عنه بعد أن اختارت غريبا يسكن الضفة الأخرى لهذا البحر..، تاركة وصيتها التي تقول فيها : لا حبّ بعد الحبّ الأوّل..وساخطة على والدها كرمز سلطوي ..، ثمّ يأخذنا السرد إلى ” اعترافات البلشفي الأخير ” حيث الجامعة وذكرياتها الحماسية ليلخّص لنا الطقس العام في الجامعة التونسية آنذاك :
” ..فأغلب الطلبة في تلك الفترة من الطبقة الفقيرة المعدمة، البعض تراهم يتجولون بين المعلّقات الحائطية التي طغى عليها الحسّ الايدولوجي السياسي ناقدين حينا ساخطين أحيانا ناقمين أخرى بوعي ودون وعي..كلّ الحساسيات والأطياف السياسية والتراكمات الايديولوجية حاضرة ..وكلّ يغنّي على ليلاه….”

في الحقيقة تأخذني الرواية إلى أجواء أعرفها إذ أنني والكاتب من نفس الجيل..ففي الفصل الموالي ” الجحيم ” يحدّثنا مراد ساسي عن ” رجيم معتوق ” وعن نفيه إلى ذلك المكان النائي الصحراوي الجافّ..، بعد مشاركته في مظاهرة طلابية ..وذلك في منتصف الثمانيات من القرن الماضي…، ومن ضمن ما ورد في هذا الفصل:
” وحملوني إلى صهاريج الأفئدة والأجساد معتقل الذاكرة..رُحلت إلى رجيم معتوق ..منافي الرجم معقل السراب..مصيدة الفئران ..سفر لا تبقي ولا تذر”
في ” سيدي غيلان ” يقصّ علينا الراوي قصّة مولده ..وكيف اندلق من بطن والدته خديجا أي قبل الأوان..ثمّ نزفت أمّه حتّى الموت وفي إثرها مات والده ..خلاصة المأساة ربّاه خاله فنشأ في أجواء الزاوية ومنتحلي صفة القداسة ممّن خلطوا الدين بالخرافة ..مزجوا بين صلاة الاستسقاء والآلهة القرطاجنية ..وهو واع تماما (حين كبر ) بهذا الخور والشعوذة ..يقول في وصف أفعالهم وممارساتهم :
” في الوسط نقشت وصايا سيّدنا ومولانا غيلان العارف بأمر الله :
أنا الطريق لكلّ ضال..أنا الصّحة لكلّ مريض.. أنا الثوب لكلّ عار..أنا الرؤية لكلّ أعمى..أنا القوّة لكلّ ضعيف..أنا الخبز لكلّ جائع..أنا الثروة لكلّ محتاج ..أنا الحرية لكلّ أسير..أنا الحياة لكلّ ميت..أنا أبوكم يا فقراء ”
هؤلاء الكاذبون المرجفون عصابة مسيلمة وأتباعه يفترون على الناس خرافة وبهتانا ويعلّمونهم الكفر ويمجّدون لهم الوثن….
يواصل السارد الحكاية فيعرج بنا مرّة ثانية إلى الطفولة ..ويقف في محطة هامّة ألا وهي درجة ” السيزيام ” أو شهادة التعليم الابتدائي ..ثمّ يقصّ علينا كيف بدأ اليوم المهني مع خاله حين رأى الفرحة تسبح على ملامح الخال السعيد لأنّه باع كلّ سلعته …ومن ضمن ما ورد في هذا الفصل :
” فتحت لنا امرأة في أوسط العمر مرحبّة بنا، ولجنا ثمّ جلسنا بغرفة كبيرة جميلة الأرائك بستائر زاهية الألوان، قدّمت لنا عصير الليمون وماء باردا وقطع المرطبات وتوجهت لخالي: أهذا الحاذق الجميل الذي سيؤنس وحشتي؟..وضحكت بغنج ودلال وهي تنظر في عيني خالي، احمرّ وجنتاي خجلا…”
الحكاية دوما فيها امرأة وهذا ما يبوح به مراد ساسي في فصل ” بهجة، وإذا الموؤودة ” ولا بدّ من تفاصيل أخرى ليكتمل المشهد ..فهذه بهجة أو ( بهجة الحياة ) كما يحلو للكاتب تسميتها، لها قصة أخرى يضيفها إلى متنه السردي ..وهو يحدّثنا عن الباكالوريا بشكل حميمي ومشوّق ..، وتتوالى فصول الرواية لكي تؤكد أننا أمام موهبة جديدة لفنّ الحكي الجميل ..، ولتؤكد ما افتتح به هذا القادم على عجل وبخطى سريعة ..في معرض كلامه الذي عنونه بالتصدير..:
” هي رواية أردتها ضدّ الموت، ضدّ النسيان، تنتصر للإنسان فقط، كأناجيل لم تأت بها النبوات أو ما لم تقله أسفار كلّ العهود، لتعصف بمكر العمر وتمنحك حرائق الشوق، لأنّ الشوق أحيانا خطير، هي مغامرة بلا حدود لرجل يتنفّس بسلطان الحياة ليقهر الموت فآثر المشي على الألغام ، على شفرة حادّة..”