أثير-د.سالم بن سلمان الشكيلي
اختلط الحابل بالنابل ، مثلُ عربيٌّ له عدة تفسيرات لكنها جميعًا تفضي إلى مفهوم واحد وهي اختلاط الآراء المتابينة ، حتى لم يعد بالإمكان التمييز بينها لعدم الوضوح ، هكذا هي اليوم آراء الساسة والمحلّلين والمفكرين ورجال الإعلام ، اختلط كلامهم فلم يعد أكثره يثبت يومًا بليلة واحدة ، حتى يتلوّن بلون آخر في صباح اليوم التالي، هذا من ناحية ، وكثرته وتناقضه وسقوطه من حيث بُعده عن مفردات القيم الأخلاقية والموضوعية من ناحية أخرى .
يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ”
(ستأتى فتنٌ على أمتي كقطع الليل المظلم ، يصبح الحليم فيها حيرانا ، فيصبح فيها الرجل مؤمنا ، ويمسي كافرا ويصبح الرجل كافرا ، ويمسي مؤمنا يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا)…. صدق رسول الله الكريم .
وليس أدلّ على هذا الحديث ما آلت إليه أحوال الأمّتين العربية والإسلامية من تشرذم وشتات وفرقة ، وأصبحت شعوبهما ودولهما في ذيل الأمم والشعوب ، يساقون كالأنعام ، ضعفوا واستكانوا فهانوا على الأمم وتكالبت عليهم ذئاب الغطرسة العالمية من كل حدب وصوب .
والمرء في حيرة شديدة إزاء ما يحدث ، وبشأن المصير الذي ستؤول إليه الأوضاع عالميا بشكل عام ، وعربيا بشكل خاص والأخيرة بالذات تواجه تحديا سياسيا وفكريا واجتماعيا وأخلاقيا ، ناهيكم عن التحديات الاقتصادية التي أصبحت تُنغّص على المواطن العربي وتقضّ مضجعه لأنها تتعلق بمعيشته اليومية؛ أي قوته وقوت عياله ، ومع ذلك فهو لأنه لا يأمن من مفاجأة جديدة تنزل عليه كصاعقة من السماء ، إذا ما أخذَته سِنةٌ أو نوم فيصبح كمصابٍ أصابته حمى شديدة أوصلَته إلى حدّ الهذيان ، فلا يدري بأي حال هو ، لا يشعر بحالة الاطمئنان والاستقرار والأمان التي من الواجب على الدولة أن توفرها لمواطنيها .
الساسة ومن كل الأطراف؛ أمريكا ، العدو الإسرائيلي ، إيران ، وبعض الدول العربية تارةً يزمجرون فيدقّون طبول الحرب ليل نهار ، ويتهدّدون ويتوعدون ، وتارة وكأنّ سكينة الرحمن نزلت عليهم ، ويا ليتها كذلك ، فتراهم يخفضون من مستوى الحدة فيستبعدون وقوع حرب في المنطقة بأسرها ، ثمّ ما يلبث أن يعودوا لممارسة هوايتهم السابقة وهكذا دواليك ، إنها لعبة السياسة القذرة .
وفي هذه اللعبة الشريرة لا يوجد من وجهة نظري طرف بريء منها ، فالكل يمارس لعبة الشدّ ومحاولة كسر عظم الطرف الآخر ، وهم يعلمون في قرارة نفوسهم ألا أحدَ يقوى على حرب جديدة في المنطقة ، لأنها لو حدثت -لا سمح الله- لن يخرج منها طرف منتصرًا ، لا أمريكا ولا إسرائيل ولا إيران ، ولا أولئك الذين ليس لهم من عناصر القوة والرأي المستقل سوى الهرولة وراء أي طرف من أطراف القوة الفاعلة السابقة ، فليس لديهم غير حليب بلدانهم وشعوبهم ، ليستبيحوها ويقدموها لأولئك الذين ليس له مهنة غير الحلْب ، فانتعش الحالب من ضرع المحلوب المسكين المستكين ، الهزيل في كل شيء .
الحقيقة المؤكدة التي لا جدال فيها ، أن أمريكا لا تريد الدخول في حرب مع إيران ، لأنها تدرك بأنّ حربا جديدة في المنطقة وفي ظل الظروف والتعقيدات السياسية والعسكرية ، ستجرّ عليها متاعب وصعوبات جمّةً وستفتح عليها وعلى مصالحها نارًا من قبل حلفاء إيران، إلى جانب الداخل الأميركي الذي يرفض المغامرة في هكذا حرب ، إِنْ بدأَت لا يعلم منتهاها إلا الله ، خاصة في ظل حكم دونالد ترامب المتهور في قراراته وسياساته التي تتسم بالانفعالية والرعونة غير المحسوبة العواقب .
والحقيقة المؤكدة الأخرى فيما يتعلق بإيران ، فإنها ليست في وارد التزاحم على استعراض قوتها الصاروخية وآلتها العسكرية ، لإدراكها بأنّ قوتها هذه لن تقارع الآلة العسكرية الأمريكية، لأسباب عدة أهما التفوّق التقني الذي يميل بشكل واسع إلى الجانب الأمريكي ، ممّا يخلق فجوة كبيرة في عدم التكافؤ في ميزان القوى ، حتى وإن بدا أن هناك عوامل قوة ناعمة إلى جانب إيران ، فإن كل تلك العوامل ستكون في حسبان الجانب الأمريكي ، إذا ما خاطَر في شنّ هذه الحرب التي لن تكون بلا شكّ نزهة لجنوده .
ولقد استغربت من بعض الكتّاب والمحلّلين الفضلاء العرب الذين راحوا يُمجدون القوة العسكرية الإيرانية إلى الحد الذي صوّروا فيه إيران على أنها سوف تقضي على أمريكا ومعها إسرائيل في غضون يومين اثنين ، وكأنّ الأمور تقاس بالتمني والعواطف. لا يا سادة ، فمعطيات الواقع بعناصره المختلفة لا بدّ من حضورها عند تقييم الأوضاع أيا كان نوعها ، أما الإغراق في التمنيات والأوهام الباطلة فهذا ليس إلا من قبيل تخدير الشعوب على غرار ما حصل قبيل نكبة حزيران ١٩٦٧م .
إنّ هذا الكمّ من الآراء والتحليلات والتأويلات المتناقضة وغير الواضحة والمتقلبة ، تارة في اليمين وتارة في أقصى اليسار ، ما هي إلا مسرحية هزلية، البطولة المطلقة فيها لساسة أمريكا وإيران ، أما البقية فأدوارهم فيها بلهاء ، بل هم مجرد كومبارس يؤدّون دورا محددًا ووحيدا ، يتمثّل في دفع ما يُطلب منهم ، وأن تستمرّ البقرة الحلوب ممتلئة الضرع قادرة على الجود بحليبها ، وعندما ينفد الحليب ويجفّ الضرع ، فحينها تكون قد استنفدَت حاجتهم منها وسيذبحونها على الفور ، أو قُل سيتركونها تموت .
ومن المهم الإشارة بالتأكيد إلى أنّ هذا المقال لا يُمجد أحدًا من الأطراف قريبا كان أم بعيدا ، لسبب بسيط؛ فإيران مثلا بسياستها الحالية ومدّ أذرعها العسكرية في بعض الدول العربية تُثير المخاوف لدى الكثيرين في الجوار ، حول النوايا والأطماع ، وبالتالي فهي أيضا ليس بريئة من تأزيم الموقف ، أما رمي إسرائيل في البحر كما يُردّد ساستهم ذلك فهو ليس إلا كلام استهلاكي يُراد منه استثمار الحالة العربية والإسلامية للشعوب ، أما من حيث الواقع فإنّ ذلك لن يحدث؛ بدليل أننا أمضينا عمرًا ونحن نسمع الكلام نفسه، ونسمع شبيهه من إيران ومن دول عربية أخرى ، فكما يقال: أسمع جعجعة ولا أرى طحينا.
وعلى الجانب الأمريكي فإن الولايات المتحدة لم ولن تأتي بجيوشها وبأحدث معداتها وآلتها العسكرية المتطورة من أجل سواد عيوننا، بل إن مصلحتها الإستراتيجية الاقتصادية والأمنية والسياسية تظل أولى الأولويات ، إلى جانب مصلحة إسرائيل باعتبارها ربيبة أمريكا وذراعا عسكريا لها .
والخاسر الأكبر في هذه الحرب لو اندلعت – لاسمح الله – سنكون نحن العرب الخليجيين خاصة ، لأنها ستدور على أرضنا وفوق أجوائنا وبحارنا ، وستتكبّد اقتصادياتنا دفْع تكاليف تلك الحرب ، وستكون على حساب شعوبنا وبلداننا ، وسيتضرر المواطن في أبسط مقدّراته .
ويقتضي الإنصاف أيضا بأن من حق الدول الخليجية والعربية أن تتوجس خيفة من نوايا إيران وأطماعها التوسعية في المنطقة العربية، وأفضل حل لهذه المعضلة المتشابكة هو جلوس إيران مع أمريكا، وجلوس إيران مع الدول العربية في حوار صريح ومباشر وشفّاف يتعاطى مع كل المخاوف الموجودة لدى كل طرف ، وفي النهاية لا بد من تحكيم صوت العقل وإنهاء كل الخلافات القائمة وإقامة علاقات متينة مبنية على الصراحة والوضوح والتعاون وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر ، وذلك سيمنع بالتأكيد العوامل التي جعلت من الخليجيين يلجأون إلى الاستقواء بالخارج .
وتبقى الحقيقة المؤكدة التي يتجاهلها البعض ، جهود الحكماء في نزع فتيل التوتر في المنطقة ، وليس لهذه المهمة إلا عمان وقيادتها التي تحظى بقبول وثقة أطراف المجتمع الدولي ، فها هو الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية العماني يتنقل بين عواصم القرار من أجل إقناع الأطراف بضرورة أن يفهم بعضهم بعضا ويؤمنوا بأن السلام حق لشعوب العالم .

