د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية. على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك. وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب. من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية. على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء . وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة. |
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية. على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك. وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب. من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية. على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء . وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة. |
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية. على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك. وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب. من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية. على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء . وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة. |
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية. على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك. وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب. من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية. على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء . وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة. |
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية. على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك. وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب. من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية. على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء . وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة. |
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية. على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك. وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب. من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية. على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء . وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة. |
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية. على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك. وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب. من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية. على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء . وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة. |
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية. على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك. وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب. من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية. على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء . وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة. |
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية. على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك. وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب. من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية. على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء . وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة. |
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية.
على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك.
وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب.
من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية.
على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء .
وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة.
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية.
على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك.
وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب.
من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية.
على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء .
وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة.
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية.
على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك.
وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب.
من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية.
على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء .
وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة.
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية.
على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك.
وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب.
من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية.
على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء .
وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة.
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية.
على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك.
وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب.
من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية.
على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء .
وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة.
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية.
على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك.
وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب.
من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية.
على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء .
وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة.
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية.
على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك.
وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب.
من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية.
على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء .
وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة.
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية.
على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك.
وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب.
من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية.
على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء .
وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة.
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية.
يطرح تناولنا للموضوع تساؤلات عدة ويثير نقاشات مستفيضة، ويفصح عن أهمية البحث في مداخل تطويرية يجب أن يتجه إليها التعليم في إعادة هندسة ممارساته المتجهة إلى صناعة الخوف وإثارة مكامن القلق السلبي في النفس ، ولعل مثار التساؤل والاستغراب أو محط النقاش يرجع لأمرين اثنين، أولهما: أنه جاء مع بداية العام الدراسي وثاني يوم لدوام الطلبة والطالبات وعودتهم إلى مقاعد الدراسة، وطرح الموضوع في هذا التوقيت بالذات يحمل الكثير من الدلالات المهمة التي ينبغي التركيز عليها والتذكير بها حتى لا يتحول دور التعليم إلى منصة لصناعة الخوف وزيادة هرمون القلق في شخص المتعلم، وثانيهما: أن رسالة التعليم في حقيقتها رسالة سلام داخلي مع النفس وخارجي مع الآخر، رسالة الوعي ونهج التعايش والحب وتعزيز مساحات الألفة ، إذ يجد المتعلم فيه محطة استراحة فكرية ونفسية وأخلاقية ومهنية لاستعادة أنفاسه وفهم نفسه، والوقوف على ذاته وقراءة أولوياته واهتماماته، انها مساحه للبحث عن السكينة والهدوء، والروح الإيجابية والاستقرار النفسي والعيش خلالها في عوامل متعددة حيث القراءة والنصيحة وحس التوجيه والالتزام، وبناء الذات وصقل الموهبة، وترقية السلوك وقراءة تفاصيل الحياة في إطار من الوعي والحس، فتتعايش فيه طبيعة المتعلم مع عوالم عدة ومحطات متعددة ومواقف متنوعة، يفترض أن تبرز أهمية التعليم خلالها في الثقة التي يحملها المتعلم في نفسه، والقناعة الإيجابية التي يستشعرها نحو غيره من الموجودات، ومعنى ذلك أن انحراف رسالة التعليم عن هذا المسار وتحقق غير المرغوب منها، يضع التعليم وفلسفة عمله أمام علامات استفهام تطال سياساته وبرامجه وخططه ومدى اقتراب الممارسة التعليمية من الطموحات والتزامها بالمعايير والاشتراطات التي حددتها فلسفة التعليم وأفصحت عنها رؤية التعليم 2040 واستراتيجيات العمل التشغيلية.
على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك.
على أن البحث في مؤشرات تحقق ثقافة الخوف وترسيخ بذورها في حياة المتعلم في واقع الممارسة التعليمية ، ليست مبنية على تكهنات شخصية، بل أحداث واقعية يستشرها ولي الأمر والأسرة في تصرفات الأبناء وسلوكياتهم، والقناعات التي تتأكد لديهم حول مفاهيم التعليم والتعلم والمدرسة والصف والمنهج والكتاب والمادة والمعلم وغيرها، حتى ليصاب البعض عند ذكرها بنوع من الفيوبيا التي تتحكم في عقله وتتفاعل مع حواسه لتؤدي به إلى حالة من الانتكاسة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، وهي اليوم تفصح عن حالة الانحراف في الممارسة التعليمية وتأصيل سلوك الهدر الفكري والمعرفي فيها وحضور التكرار والتلقين كواجهات ما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام وسلوكيات تكرس صفة الاجترار، بما ينتج عنها من سلوك نفسي يعبر فيه المتعلم عن مقاومته للتعليم، وعدم رغبته في الذهاب للمدرسة خاصة لدى طلبة الصفوف في الحلقتين الأولى والثانية، وقد يستمر الأمر إلى مرحلة التعليم ما بعد الأساسي، ذلك أن واقع الممارسة في الصف الدراسي وآلية التعاطي مع اهتمامات المتعلم وأفكاره والمساحة التي تمنحها المدرسة أو المعلم للطالب باتت تشكل اليوم هاجسا مؤرقا له، فإن أحسنت المدرسة استغلالها، ووظفها المعلم بشكل صحيح كانت النتائج جد مبهرة والممارسات تعبر عن التوقعات، وهي على العكس إن أسدل الستار عليها بمسوغات واهية كزيادة عدد الطلبة ، واتساع المنهج، وتغيب المعلم وغيرها من الأعذار التي باتت تصيب الممارسة التعليمية بالخلل، فهو يشعر بأنه غير مقدر وغير محترم، ولا يشعر بأدنى جاذبية نحو بيئة التعليم، فيبقى في حالة صراع نفسي، وسلوك قهري يتعاظم أثره يوما بعد يوم، في تعابير مختلفة ، كشرود الذهن، وكثرة الغياب، وضعف الدافعية والحماس، وقلة الاكتراث بالواجبات، وضعف التواصل الصفي مع المعلم والطلاب، ومحاولة إحداث نوع من الارباك في الموقف التعليمي كتعبير عن عدم الارتياح، أو الانطواء مع النفس، وعدم الإفصاح عما يدور بخاطره، فتتنازعه الأهواء، وتتقاذفه رياح التغيير التي تأتي من الواقع الاجتماعي والشللية التي تغرد خارج سرب التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي بذلك بعيدة عن رقابة الاسرة والمدرسة ، لذلك تجده يعبر عن هذا السخط لأقرانه وزملائه ممن يأنس فيهم الصفة نفسها، أو يتقاسمون معه هذا السلوك.
وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب.
وعليه تبقى الأسابيع الأولى من العام الدراسي خيارا استراتيجيا ومدخلا مهما في التربية والأعداد وبناء الذات، يجب على المدرسة أن تحسن استخدامها، وتفعل آلياتها، وتؤطر مداخلها وتخضعها للمزيد من التشخيص والتقييم والمراجعة والمتابعة، وأن تتبني في سبيلها ممارسات تعليمية أنموذجية تؤسس لاحتواء المتعلم والتأثير الايجابي فيه وتحسين الصورة الذهنية لديه حول المدرسة، واكسابه الثقة في نفسه، وتعميق اتصاله بالمعلم، وحسن الاستماع اليه ، والاخذ بيده، والحوار معه، واستكشاف قدراته، ومراعاه خصوصيته، وتحسس جوانب الذوق لديه، ومراعاة خصوصية الطلبة في الحديث، وايقاظ جانب الحماس عنده، واتاحه مساحات الحديث معه، والتعبير عن ذاته، وإعطاء الطلبة فرصة التعريف بذواتهم واهتماماتهم وما يمتلكون من محاسن الأشياء وجماليات الأوصاف، ومراعاة الظروف المرضية والنفسية والاجتماعية لبعضهم، كأن يكون قليل السمع، أو ضعيف البصر، أو لديه مشكلة اجتماعية، أو يمر بحالة انطوائية ، وهنا يتأكد دور المعلم في احتوائه واستمالته اليه واشعاره بوجوده، وايقاظ الشعور الايجابي لديه في التعبير عن نفسه والتصالح مع ذاته والحديث عن مهاراته وامكانياته ، فيترك له حرية التعبير، ويرسم فيه ملامح الامل، ويبصره بفرص النجاح ، ويؤسس فيه قيم الخيرية، ويحفز فيه نوازع الابداع والابتكار، ويبعده عن التفكير السلبي، ويزيل عنه عقدة الأنا، ويؤصل فيه معاني الحب والتعايش والتعاون والوئام، ويغرس فيه سلوك المؤازرة والأخوة واحترام إرادة الاخرين، ويبصّر الطلبة بحق كل واحد منهم في التعلم والتعبير عن رأيه والاجابة عن التساؤل الذي يدور في خاطره، والهواجس التي تبحث في فمره، بل والمشاركة في نقاشات المعلم وحواراته، وأن لكل طالب حقا في وقت التعليم، ومساحه في العطاء والمبادرة والانجاز، فلا يستأثر بها عن غيره، ولا يحق له أن ينتزع حقوق زملائه، فإن تحقق هذه الجوانب في الواقع، منطلق لإزالة ثقافة الخوف وترقية النفس عن مسارات القلق وحالة التنمر التي يعايشها المتعلم نحو تعلمه ومعلميه وزملائه ووالديه والمجتمع، وهنا تأتي أهمية اعداد المعلم الواعي بكل هذه المعطيات ، المدرك لكل هذه المواقف، الفاعل في المساهمة في إعادة انتاج الواقع التعليمي، فيؤسس في المعلم الحدس بالتوقعات، والفراسة في استشعار ملكات الطالب، وقدرته على استكشاف ميوله وتلمس الجوانب الخفية لديه، وإزالة حاجز الرهبة والخوف منه، والافصاح عما يكنه المتعلم في نفسه، والتعبير عما يعكسه واقعه من مواقف، لذلك تبقى مسؤوليته نافذة في قراءة السلوك الطلابي وفهم الجوانب الدقيقة والتفاصيل العميقة في حياة الطالب.
من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية.
من هنا فإن صناعة التعليم لحالة الرهاب وثقافة الخوف، الحلقة الأضعف في الممارسة التعليمية التي يجب تجاوزها، لأنها تعبر عن حالة تعليمية مفلسة، تتسم بالتقليدية والتلقين والتكرارية والخمول والجمود والقسوة والتجريد وضعف مساحات الحوار ، وقلة البدائل التي تصنعها أو الحلول التي تنتجها لواقع الطلبة، وافتقارها لمبادئ الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي، فهي بيئة مغلقة على ذاتها، وممارسين لا يعيرون للتفاصيل أي اهتمام، إذ أولوية الانتهاء من المنهج في الوقت المحدد تفوق ما سواها، وتصبح عملية الضبط محصورة في الالتزام بجملة القوانين التي تقيد حركة الطلبة وحيويتهم وتصنع منهم قوالب جامدة دون حراك أو تحرك، ذلك أن عملية ضبط المعلم للصف لا تتعدى في مفهومها التقليدي السطحي عدم مقاطعة المعلم بأي حالة من حالات التعبير سواء بالرضا أو السخط، فهي أهم مراحل التقييم لدى المشرف التربوي- إلا قليلا -، لذلك باتت هذه الممارسات صناعة حاضرة لثقافة الخوف أدت إلى حالة من الذهول الفكري والنفوق العاطفي والخمول المهني ، على أن مسؤولية التعليم في هذه الفترة، من بداية العام الدراسي يجب أن تتجه إلى استشعار القيمة المضافة المتحققة من حسن الاستثمار الأمثل لها في حياة الأجيال : كيف يصيغ من العام الدراسي لحن جديد وحياة متجددة للمتعلمين، يستشعرون فيه قيمتهم، ويشعرون بوجودهم، ويسعون فيه لتحديد موقعهم في خارطة الإنجاز القادمة، ولا قيمة لأي جهد تبذله المدرسة أو أي مبادرة يصنعها المعلم إذا لم تحقق البعد النفسي وتشبع الحالة العاطفية للمتعلم المتعشطة للاحتواء والتمكين والاستقلالية والثقة والابهار ، ولا يمكن أن يتحقق من المتعلم أي مستوى تعليمي نابع عن رغبة ذاتية وحس واع، إلا إذا منح المتعلم الوقت والرعاية والعناية المؤصلة لمنهج التربية، فبناء البيت الداخلي الطريق لرسم ملامح التحول القادم، والانطلاقة إلى عالم أرحب وفضاءات أكثر اتساعا، وهو أمر ينطبق على الحالة التعليمية بكل ظروفها، فعندما يؤسس التعليم على هذه النُهج ويؤطر وفق فلسفة عمله في محورية الطالب في العملية التعليمية التي تمنحه استحقاقات قادمة في رسم ملامح التحول، وتحقيق معايير الإنجاز، فيشعر بحبه للمدرسة وقربه منها، واقترابه من اهتمامات المعلمين، واستشعاره بما يبذله المعلمون من جهود حثيثة في صناعة الأمان النفسي للمتعلم، وتحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة وفق المعايير، وعندها سوف تظهر بصمات هذا السلوك وتأثيره على رغبتهم في المدرسة وحبهم لها، وحديثهم عن المعلمين، فتتفتح أساريرهم، ويزداد شغفهم، وتكبر خيالاتهم، وتقوى مبادراتهم، وينمو إحساسهم بالمدرسة وانطباعاتهم الإيجابية حولها، وتصفو ذائقتهم نحوها واعترافهم بها، ولا يمكن أن تحقق المدرسة النجاح في مسيرتها التعليمية في ظل
عمليات الاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة التي ينتهجها بعض الممارسين، فالاهتمام بالطالب الذكي وترك الآخر، أو إعطاء الفرصة للطالب المشارك دون غيره، ووضع الطلبة المجيدين في المقدمة وترك غيرهم في الخلف، أو إشعار الطالب المتأخر في الاستيعاب بأنه غير قادر على مواصلة مشوار التفوق والمنافسة، أو ازدواجيه المعايير في التعامل مع طالب دون غيره في مواقف مشابهة وظروف متقاربة ، أو في منح البعض فرص أكبر من غيرهم في المشاركة والحوار والتواصل ، أو بعض التلميحات والعبارات التي قد تثير لدى الطالب شعور الخوف والقلق والدونية وضعف الحال، بما يؤكد الحاجة إلى إذابة فوارق الأنا وتحقيق التماهي الاجتماعي بما يحفظ للمجتمع هويته وتميّزه، ويؤسس للتنافسية القائمة على تعظيم قيمة الاستثمار في القدرات والاستعدادات الفكرية والمهارية حضورها في مسيرة حياته التعليمية والمهنية.
على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء .
على أن صناعة التعليم لثقافة الخوف لا تقتصر على ما ذكرنا بل قد تتسع تعبيراتها وتتوع مساراتها، عندما لا يستطيع التعليم استيعاب مدركات الطلبة الفكرية والنفسية والشخصية، او يتواكب مع احتياجاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويرقى لمسارات النمو لديهم، أو يوفر لهم فرص العيش وممكناته في عالم متغير، فيصيب حياة المتعلمين بالفتور، وحماس المخرجات بالعجز ، في عدم قدرته على تأسيس المهارة ، وصقل الخبرة، وتوجيه المسار، وتمكين المتعلم من ابتكار حلول لواقعه، أو أن يوظف ما تعلمه في التعاطي مع المواقف اليومية التي يمر بها، أو في اتخاذ القرار وتحقيق الاستقلالية المشروطة ، وعندها يصبح التعليم حالة استهلاكية موقوته، وظاهرة صوتيه متكررة بعيدة عن الواقع ، منحازة إلى التكرارية، متجهة إلى السطحية، فإذا به يمجد في المتعلم صفة الغرور والفوقية والاستهلاكية والفردانية ، والسطحية والعشوائية، وهكذا يصبح التعليم كومة مشاعر مكبوتة، لتلقي بثقلها على حياة المتعلم في تمرده وتنمره أو انطوائه وتقوقعه، فإن حالة الانحراف والتشدد الفكري والحيرة والعشوائية وفقدان الذات وعدم القدرة على توجيه الأفكار وما يصاحبها من افلاس في القيم والاخلاقيات، وعدم القدرة على الصمود والمواجهة وحالة الانسحاب من المواقف في أبسط الأمور ، إنما هي نواتج لثقافة الخوف التي أنتجها التعليم وأسسها في حياة الأفراد، فأصبح أداة ضعيفة هاملة خاملة غير قادرة على التعامل مع مستجدات الواقع، وكومة من العقد التي نسجتها خيوط التعليم ورسمتها في شخصيات الأبناء .
وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة.
وعليه يبقى تقييمنا لبداية العام الدراسي وجاهزية المدارس واستعداداتها لاستقبال الطلبة وتعبيراتها عن هذا الاستقبال بما ترصده منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المدارس والتي تشعرنا بالفخر وتمنحنا القوة بأننا مع هذه التحديات والاشكاليات والمستجدات المرهقة للتعليم، إلا أن تفاعل الميدان التعليمي واستشعاره عظم المسؤولية يقف عاجزا عن التعبير عن مسارات هذا التحول في الوعي والقوة في المسار التعليمي والشغف نحو تقديم الأفضل ؛ ومع كل ذلك فإن تنافسية النجاح فيه مرهونة بفلسفة الاحتواء واستمراريتها وقدرتها على إدارة التغيير لصالح كسب ثقة المتعلمين واستيعابهم للتوجهات والتزامهم باللوائح والتشريعات ، ويبقى الخوف صناعة التعليم اللامسؤول التي تعبر عن عنف واهمال ، وسفه، وانشغال، وعدم تقدير لإنجاز، وشدة في حديث، وغلظة في نصح، وتهجم في قول، وطيش في حمق، وانتزاع للثقة، واشتغال بفرد على حساب مجموعة، أو بتفاصيل على حساب الأولويات، وعدم فهم لفروق فرديه، واستخفاف برأي، وتهكم على إجابة، وانتقاص من رأي، وتقليل للنفس أمام الآخرين، وضرب بدون حق، أو حماقة في تسرع، وغضب في شدة، وغلظة في قسوة، واستحمار للفكر واجترار للمعلومة.