أثير

د. صالح بن هاشل المسكري
دولة المؤسسات هي تلك الدولة التي تنشأ السلطات فيها وفقًا لقواعد قانونية سابقة تحدد كيفية إسناد السلطة إلى مؤسسة أو أفراد معينين ، ثم تحدد القواعد القانونية اختصاصات كل فرد أو مجموعة إنفاذًا لمبدأ سيادة القانون ، وعبارة سيادة القانون تعني حكم القانون ، أي سيادة القاعدة القانونية بمعناها الشامل والذي يبدأ من أعلى بالقاعدة الدستورية ثم القاعدة التشريعية أو القانونية ، ثم القوانين الفرعية والقرارات الإدارية لائحية أو فردية ، وتعني تلك العبارة أيضًا أن القاعدة القانونية فوق إرادات الأفراد جميعا حاكمين ومحكومين وتلزمهم بأحكامه ، فإن لم يلتزموا بالقاعدة القانونية انقلب تصرفهم المخالف للقانون إلى تصرف غير قانوني ، ولا يُتصور أن تكون سيادة القانون كاملة إذا كان القضاء لا يستطيع أن يتصدى لقاعدة قانونية سواء صدرت عن سلطة التشريع أو عن سلطة تنفيذية في الدولة كي يُعلن أنها مخالفة للدستور أو موافقة له .
وفي الدولة الحديثة لا توجد مؤسسة واحدة أو سلطة واحدة ، وإنما توجد سلطات مستقلة تمارس بواسطة مؤسسات دستورية ، ومن أهم هذه السلطات السلطة التشريعية التي تمارس بواسطة البرلمان سواء تمثل هذا البرلمان بمجلس واحد أم بمجلسين كما هو الحال في سلطنة عمان حيث تتشكل الهيئة البرلمانية من مجلسي الدولة المُعيَّن بالكامل ومجلس الشورى المُنتخب بالكامل وفقا للنظام الأساسي للدولة ، والسلطة التنفيذية التي تمارسها المؤسسات التنفيذية ووحدات الجهاز الإداري للدولة ، والسلطة القضائية التي تمارس بواسطة المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ، ومؤسسات الدولة يفترض أن تكون ثابتة لا تتغير بزوال الأشخاص العاملين فيها إلّا بنص دستوري يجيز لها ذلك ، والعبرة هنا ليست في قيام الهياكل المؤسسية والبناء القانوني للدولة الحديثة ، إنما العبرة في تفعيل الواجبات واحترام المؤسسات والسلطات لحدودها وعدم التدخل في اختصاصات أية سلطة أخرى.
وإذا أسقطنا التفسير القانوني السابق لدولة المؤسسات على الحالة العمانية نجد أن الدولة العمانية قائمة فعلا على مفهوم دولة المؤسسات فهناك نظام أساسي للدولة وهو دستور البلاد ، وهناك سلطات ثلاث تشريعية وتنفيذية وقضائية واضحة المعالم والاختصاصات خاصة بعد التعديل الأخير للنظام الأساسي الذي منح مجلس عمان اختصاصات برلمانية واسعة تشريعية ورقابية ومالية ( وإن كان بعض هذه الاختصاصات غير مُفعّل كما يجب ) وأيضا استقلال السلطة القضائية بنقل تبعية المحاكم من وزارة العدل الى مجلس الشؤون الإدارية وفق المراسيم 9 ، 10 / 2012 بإعادة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء وتنظيم إدارة شؤون القضاء واستقلال السلطة القضائية عن الإشراف المباشر لوزارة العدل ، وأيضا استقلال كل من الادعاء العام ومحكمة القضاء الإداري وهيئة التفتيش الفني ورئيس المحكمة العليا باختصاصاتهم ،وقد أسس هذا لسيادة القانون ووضع دولة المؤسسات في مسارها الصحيح ، ولكن لا تؤخذ الأمور بمبانيها فقط بل يبقى التطبيق الفعلي والممارسة الحقيقية للصلاحيات والاختصاصات وعدم تغوّل سُلطةٍ على أخرى وعرقلة مؤسسة لأخرى هو الأهم ، دون المساس بميزة التعاون والتنسيق بين السلطات الثلاث الرئيسة في البلاد .
ومع كل الانتقادات التي وجهت لنظام الرقابة على دستورية القوانين من أن الرقابة تعطل عمل الديمقراطية ، وأنها تتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات ، وتجر القاضي الدستوري إلى حقل السياسة ، ثُم إنه لا جدوى من الرقابة على الدستورية أصلا سواءً في دول المحكومة حُكما شموليا أم في دول الحكم الديكتاتوري فهي تظل في يد الحاكم يحركها حسب أهوائه ونزواته؛ إلا أن نظام الرقابة على دستورية القوانين يظل هو الضامن الحقيقي لنفاذ القاعدة الدستورية وعدم مخالفتها ، وهو الحارس لمبدأ الشرعية التي تعني أن يسود القانون بمعناه العام كل سلطات الدولة ، كما إنه يُحافظ على الحدود الدستورية للسلطات فلا مجال لأي سلطة أن تفوض اختصاصا من اختصاصاتها التي يحددها لها الدستور لأية سلطة أخرى بما فيها سلطة رئيس الدولة وإلا عُدَّ تصرفها هذا مخالفا للدستور وبالتالي وجب إلغاؤه أو وقف العمل به ، كما أن الرقابة على الدستورية خير ضمان ضد تعسف السلطة التشريعية حيث تجعل البرلمان الذي في الغالب لا يمثل كل الأمة وإنما شريحة ضئيلة منها ولا تتمتع أغلب البرلمانات بالكفاءة الفنية اللازمة وهي أي البرلمانات سيّدٌ من السهل استغفاله ” كما يقول الفقيه جيز ” ، تجعله يتريث ويتأنى ويفكر ويمحص قبل أن يُقدِم على سن أي تشريع لأنه يعلم علم اليقين أنه إذا أنتج عملا غير دستوري فسيكون مصيره البطلان، أو على أقل تقدير الإهمال وعدم القابلية للتطبيق، وفي ذلك حماية للدستور وصيانة له من العبث وفيه أيضا الضمان والحماية لحقوق الأفراد، ، والرقابة على دستورية القوانين أهم ضمانات الحرية وذلك بحماية وتطبيق مبدأ الحقوق الفردية وحماية الحريات المدنية والسياسية لأفراد المجتمع الرقابة على دستورية القوانين تعني حماية الدستور والشرعية الدستورية ، وترسيخ دولة القانون والمؤسسات ، وحفظ الحقوق والحريات العامة .
ومن هنا وجب علينا أن نُنبه الى أهمية الرقابة على دستورية القوانين في السلطنة بعد أن استكملت البلاد بناءها القانوني والمؤسسي ، ونحث الجهات المختصة على البدء فورا في تطبيق نظام الرقابة على دستورية القوانين والخروج من حالة الجمود والتراخي التي تخرج عن مقاصدها وتُحمل في غير محملها في كثير من الأحيان ، وفي حُكم المؤكد أنه توجد في بلادنا التي وُضع مبدأ نظام الرقابة على الدستورية فيها منذ عشرين عاما ولم يُطبق عمليا حتى اليوم ، توجد عشرات القوانين السارية غير مطابقة للنظام الأساسي للدولة وبها عوار دستوري بطريقٍ أو بآخر سواء كان هذا التعارض شكليًا أي إجرائيا أو كان موضوعيا ويتم السكوت عنه دون مبرر ، ومن هنا نجدُ أنه من المصلحة العامة أن تتم مراجعة القوانين السارية في السلطنة وعمل صيانة شاملة للشبكة القانونية في البلاد مع استكمال القوانين التي يُشير إليها النظام الأساسي للدولة ولم ترَ النور بعد ، وأن تبدأ الجهة التي ذكرت في المادة ( 10 ) من قانون السلطة القضائية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 90 / 99 في القيام بعملها وواجباتها تجاه تفعيل نظام الرقابة على دستورية القوانين بشكلٍ دائم ومنتظم .
ولا أرى أية أهمية في الوقت الحاضر لقيام محكمة دستورية عليا مستقلّة في البلاد ، وذلك لأسباب دستورية وأخرى إدارية ومالية يطول شرحها ، ويمكن عوضا عن ذلك تفعيل نظام الرقابة على الدستورية من خلال المحكمة العليا بأن تكون الهيئة غير الدائمة المنصوص عليها في قانون السلطة القضائية والمختصة بالرقابة على الدستورية والفصل في تنازع الأحكام والاختصاص تكون هيئة قضائية دائمة وتبدأ في ممارسة نشاطها في القضاء الدستوري بصفة دائمة وليس حسب الحاجة ، ثم قياس نتائج أعمال هذه الهيئة وكمية هذه الأعمال بأهمية قيام محكمة دستورية عليا متخصصة في عُمان مستقبلا تحمي النظام الأساسي وتراعي الحقوق والحريات وتكون حجةً ومرجعًا للجميع ، وفي هذه الممارسة تشخيص للحالة الدستورية في البلاد وتدريب واختبار لكادر القضاء الدستوري الوطني ومدى كفايته وكفاءته ، وفي تقديري فإن هناك قضاة دستوريين أكفاء في المحكمة العليا وفي غيرها من المحاكم يستطيعون تحمل المسؤولية ، وإذا دعت الحاجة يمكن الاستعانة بقضاة دستوريين آخرين من خارج السلطنة لمرحلة انتقالية مؤقتة ، أو يمكن ممارسة الرقابة من خلال البرلمان كطريقة من طرق الرقابة السياسية السابقة ، ونؤكد أن السلطة القضائية سلطة غير منشئة للقاعدة القانونية ، إنما هي سلطة فصل في المنازعات التي تثور بين الناس وبعضهم ، أو بين الناس وأجهزة الدولة ، أو بين أجهزة الدولة نفسها.