أخبار

د. زكية بنت محمد العتيبي تكتب: السخرية في مواجهة الألم

د. زكية بنت محمد العتيبي تكتب: السخرية في مواجهة الألم
د. زكية بنت محمد العتيبي تكتب: السخرية في مواجهة الألم د. زكية بنت محمد العتيبي تكتب: السخرية في مواجهة الألم

السخرية في مواجهة الألم
د. زكية بنت محمد العتيبي


يرى بعض النُّقاد أنَّ السخرية فنٌّ أدبيٌّ کسائرالفنون الأدبيّة؛ مثل القصة، والمسرحية وغيرها من الفنون,كما يرى البعض الآخر أنّها “فن مائي” يتسرب إلى فنون القول كلّها من مقال, وقصة, ورواية وشعر, ومسرح.
و الكاتب الساخر؛ صاحب النفس الطويل في التهكم على الواقع؛ محبوب لدى المتلقي, فسخريته هي طريق لتمرير الجوانب الانتقادية بلغة ممزوجة بروح الفكاهة الناتجة عن الآلام والمضايقات.
وهذه الملكة تنتج عن حدّه الذکاء، ودقة التنقيب كمايرى الدكتور رادفر؛ فالأديب الساخرلديه لغة خاصة يُنزِل بواسطتها، سياطه علي ظهر کلّ من کان سببًا من أسباب آلآم النّاس، وشقائهم فهو يختار لغة تحتوي على مفردات، وتراکيب، وعناصر بلاغيّة خاصة قابلة للتأثير .
إنهاطريق خاص للتعبير عن القضايا التي تدعو إلى الانتقاد في المجتمعات وهي مرآة صادقة للحقيقة .



وفي الجوانب الکنائية، والاستعارية للسخرية قوة؛ إذ يعتمد المضمون، والفکرة فيها علي التجارب وتعميمها بروح النكتة؛ لتخفيف وطأة الألم, فرواج السخرية ضرورة تقتضيها لحظات التعب، والضعف فهي “تواجه الأوساخ، والانحرافات، والنقائص وتناضل في سبيل تقويضها”

وقدحاول الطبيب النفسي (ألفرد أدلر) أن يحلل السخرية كانفعال مركِّب إلى غرائز بسيطة تتركب منها، فقال:
​”هي خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز: فنحن إذ تثور فينا غريزة النفور نشمئز، فإذا عدا الشيء الذي أثار اشمئزازنا على صفاء عيشنا، من أية ناحية من النواحي، بعثت فينا غريزة المقاتلة, والانفعال المقترن بها، وهو الغضب، فدفعا بنا إلى السخرية مما بعث اشمئزازنا أو ممن أثاره في نفوسنا,ولا يخلو هذا من عنصر الزهو؛ لأنّنا ننزع إلى الرضا عن أنفسنا والاسترواح إلى شعورنا، عقب مطاوعة السخرية والانسياق معها”
فالسخرية إذن تأتي بقصد اللذع, والإيلام ؛ذلك لأنّها طريقة غير مباشرة في الهجوم, فهي ناتجة من الضعيف إلى القوي.


والكتابة الساخرة “تحتاج إلى مصارحة الذات قبل مصارحة المجتمع, وتعمد إلى تكسير جميع الحواجز اللغوية والأدبيّة؛ لتكون الرسالة أقوى من طلقات الرصاص” وهذا مالمسناه في شخصية البطل(غالب) في رواية القندس للروائي محمد حسن علوان؛فقد وصل إلى هذا النوع من المصارحة لكنّه لم يصل إلى مستوى التصالح مع ذاته, بدلالة هذا النقد اللاذع على مستوى الشكل الخارجي, فالسخرية, ماهي إلا (كوميديا سوداء) تعكس الأوجاع بقالب ساخر, يرسم البسمة على الوجه في اللحظة التي يُغمد خنجره في الروح.
وهذا النّوع من الكتابة يعني؛ التّمرد على الواقع, والثورة ضد مالايُرضي,فهي “العُكاّز الذي يتكئ عليه الكاتب الحرّ؛ ليقوّم اعوجاج هذا العالم, وهي”مانعة الصواعق ضد الانهيار النفسي”


وتكمن جمالية النّص الساخر في أنّه بمثابة “البيان السري بين الكاتب والقارئ, و بين الوجع وصاحبه” وفي أنّها بمثابة “قهوة الكادحين”كما يُقال,فهم يتحلقون حولها على وجع واحد.
وهي -وإن راج عنها أنّها “أدب المهمشين” إلا أنّها من -وجهة نظري- أدب المؤمنين بحقوقهم المسلوبة بقوة أعظم منهم.
وبالرغم من مرارة التّهميش التي تعيشها شخصية غالب في الرواية إلا أنّ حسّ السخرية مبثوث في هذه الشخصية الذكية اللماحة التي اختارت حياتها الخاصة في وسط مجتمع عائلي لا يجيد غير الانتقاص, فما كان منه إلا أن سار بنا على ضوء وميضه الساخر الذي خلّفه شعوره بالوحدة, والتهميش, والاغتراب وهو يجد في نفسه الكثير المستحق,و يصل هذا الوميض الساخر ذروته في محطات التّكبل بالألم كنوع من التّنفيس, أو إيجاد ردة فعل غير الصّمت أمام أمور موجعة, منها على سبيل المثال قوله في أحد مشاهد الرواية -وهو يسخر من شكله- وهذا أشدّ أنواع السخرية وجعًا:
” ترهل خداي وعنقي مثل عجين اختمرت طويلاً. بعد ذلك جمع حادث السيارة كلّ تلك الملامح المبعثرة أصلًا, وبعثرها مرة أخرى بمعرفته.”
وفي ألمه من دعوات والديه, يقول ساخرًا:
“خرجت على سيارتي, وأنا أفكر كيف يتعامل الله مع الدعوات المتتابعة التي يرفعها أبي وأمي عليّ منذ ست وأربعين سنة حتى الآن؟ هل من المعقول أنه لم يتخذ قراره بشأنها حتى الآن؟ أتراه يمهلني.. أم يمهلهما؟”
وفي نقمته على طريقة والده يقول:
“منذ وصل أبي إلى الرياض ووجهه معفّر بالدّين واليتم وهو يشعر بأنها حريق كبير يوشك أن يأخذه. ولذلك ربّانا جميعاً كفرقة إطفاء.”
عالم الكبار مليء بالنفاق من وجهة نظر غالب, وفي حديثه السابق تعريض باستخدام التدين كقناع لمن هو في مثل حالة والده, العقاري الشره الذي يُلبس رغباته الدنيوية ثوب التدين.
وتطال سخريته الحبّ الذي عاش معه عشرين عامًا, فيقول عن عشيقته غادة بعد أن اكتشف هشاشة العلاقة, وجرب أن يعيش معها في بيت واحد, ويراها بكل تفاصيلها التي اكتشف على إثرها أنهما لايصلحان للزواج:” ” الحقيقة التي كشفها استيقاظنا معاً في الصباح على أمزجة متناقضة وصمتنا الطويل في المساء أمام برنامج تلفزيوني ، هي أن علاقتنا برمتها لم تكن أكثر من صدفة غير متقنة . الآن اكتشفت بشعور مختلط بين الألم والراحة أن الجوهرة الصغيرة التي احتفظت بها في صندوق مخملي في أقصى القلب كانت مزيفة ولا تستحق سوى ثمن بخس من النزوات الطارئة.”
ويقول في موضع آخر عنها:
” تخيلت أنها إذا استطاعت أن تخلع حذاءها بعد عشر دقائق فقط في شقتي فقد تخلع زوجها إذا أقامت هنا أكثر من أسبوع.”
ثم يختم في آخر الرواية عن هذه القصة من حياته ساخرًا بقوله:
“راحت تمشي فوق السرير وهي تضحك بخفة, أبديت اندهاشًا وإعجابا مصطنعين, بينما سجد في داخلي رجل أشيب شاكرا الله على رحيلها القريب…ليتها لم تكافئ الرجل الذي أعجبها نبله بالتنكر على شكل عاهرة..حاولت أن تجعلني أرقص فاعتذرت بكاحلي الملتوي, وقلبي الذي يكاد أن يتقيأها خارجه..أخيرًا هجعت إلى جواري مثل كومة ذنوب”
لقد رحل حبّ النزوة رغم عمره الطويل( عشرون عامًا), فهو الآن رجل أشيب, يريد شكر الله على رحيلها من شقته وبالتالي من حياته, التي أخذت تسير في خط مراسم لفظها خارج قلبه خروجًا نهائيًا على هيئة قيء!!
والحقيقة أن هذه المفردة كافية للتعبير عن حجم الكره لهذه العلاقة في هذا العمر, فالقيء هو ماتقذفه المعدة عند اضطراب النفس,وهو افراغ مافي الجوف, فهو خروج نهائي من حياته, حتى صار يرى أن هجوعها الحالي ليس كأي هجوع سابق لها معه, فماعاد يراها غير كومة ذنوب, وكأنّه يحملها مسؤولية التورط بهذه العلاقة طوال هذه السنوات.
إنّ الحديث عن هذا الفن البديع في مواجهة الألم يطول, إلا أنّنا نحاول في هذه العجالة أن نخلص إلى حقيقة واحدة لايمكن إنكارها وهي: أنّ هذا الفن موهبة فطرية لايمكن تقليدها؛ فهي تتدفق بشكل تلقائي دون تخطيط مسبق وفق مقتضيات سياقها, وقد حاول الكثير من الكتاب تقليد هذا الفن بطريقة مشوهة؛ لكنهم فشلوا, وتعرضوا للنقد اللاذع.









.
.


*ناقدة أكاديمية وأديبة سعودية

Your Page Title