د. رجب بن علي العويسي – خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
سؤال قد تبدو الإجابة عنه منذ الوهلة الأولى سهلة جدا ولا تحتاج إلى تبرير، بيد أن الواقع الذي تعيشه بعض المخرجات من مؤسسات التعليم العالي والمدرسي والأكاديمي والمهني على حد سواء يعكس هذه الفجوة الحاصلة بين التعليم والواقع الاجتماعي والحياتي للخريج، وكأنّ التعليم يراد منه حالة عرضية وقتية مرتبطة بظروف معينة وسنوات محددة في حياة الفرد، وتنتهي بانتهاء تلك المرحلة، فلم يعد التعليم يرافق الخريج سواء في التحاقه بالمهنة أو إدارته لحياته وممارساته اليومية الاجتماعية والاقتصادية ومعطيات السلوك الشخصي، وظهور مساحة من الفجوة وضعت الخريج في مسار آخر ، فهو يفتقر أحيانا لبعض خصائص المتعلم والموجهات التي يفترض أن يعمل التعليم على تحقيقها في سلوكه، ليشكل هذا الخيط من التأثير مساحة أمان في حياة المتعلم لبناء فرص متقدمة تصنع من التعليم مرحلة تحول ونقطة البدء في مسيرة بناء الخريج.
وبالتالي أن يجد الخريج في التعليم محطة لصناعة التغيير الشامل القادم في حياته فيعيد هندسة بنائه الفكري والعاطفي والوجداني والمهني، عبر تأطير مسارات الوعي والفهم والفقه لديه، وتصحيح الأنماط والممارسات السلبية المتكررة فيه، وتهذيب عواطفه وترقية مبادئه عبر نماذج عملية من الممارسات الراقية والتجارب الحية والنماذج المضيئة، ويصنع فيه منهج القدوة والإخلاص والمبادرة والمبادأة، كل ذلك وغيره يسير عبر امتلاكه لرؤية واعية للحياة أهدافه وأولوياته، اهتماماته وطموحاته، رغباته واحتياجاته، ، ويبني فيه قيمة الاختيار النابع من استشعاره للخيرية والافضلية من بين جملة الخيارات ، بل ويمتلك مساحة أكبر للتجريب وتعزيز حضوره عبر ابتكار البدائل وطرق الحل، فيعمل عل انتاج الحلول للعديد من المواقف والتحديات والمشكلات اليومية التي يتعاطى معها مستفيدا من الفرص المتاحة، والقراءات المتنوعة، واطلاعه المستمر ومتابعته للحداث التي تحيط به وبمجتمعه والعالم، لتؤسس في رأيه قوة، مستندا إلى الشواهد والقرائن والدلائل المعززة لرأيه، واعيًا بالتشريعات والقوانين والموجهات التي يحتكم إليها لحسم المواقف ، وهو يتفاعل في كل ذلك بلغة تتسم بالعمق والمهنية والاعتدال والموضوعية والصدق والاستيعاب والإنصات ، بحيث تتولد لديه كل المسوغات والأفكار التي تصبح شاهدا له على قيمة ما تعلم ، وحكمة ما درس ، وأن الفرص التي أتيحت له في تعلمه في سنوات دراسته السابقة ما هي إلا تهيئة وإعدادا وبناء وإطارا فكريا يوجه مساره ويؤسس تعامله مع الأحداث القادمة في حياته سواء كان وظيفة أو مهنة أو بناء أسرة أو حياة زوجية أو في قدرته على إثبات حضوره في التعاطي مع الممكنات وحسن استخدامها وتوظيفها أو العقبات والتحديات وتعاطيه مع موجهاتها ومتطلباته ومعالجتها بروح راقية وأسلوب حسن ومنهج رصين وثقافة واعية ، وهو المعنى الذي حدده الخطاب السامي لجلالة السلطان المعظم في الإشارة الكريمة السامية إلى المسار الذي يجب أن يصنعه التعليم في حياة الأجيال، ويعمل على تحقيقه في إطار بناء الانسان العماني الواعي لذاته ومحيطه المدرك لمسؤولياته وواجباته وحقوقه القادر على صناعة تحول في مسيرة تطوره، وهو ما لا يتأتى إلا عبر تعليم يرافق الأجيال سره، ويبني الآمال نهجه، فهو مفتاحهم لبلوغ الأمل، ومسارهم لصناعة الإرادة، وطريقهم في انتاج القوة، وفاتحتهم لنهضة النفس، وطريقهم لسبر الحياة والدخول في أعماقها لتنفتح لهم أساريرها وتتعاظم لديهم قيمتها في ظلال العلم والخلق والمبادئ والقيم، عبر ما يصنعه لنفسه من حضور في فقه الإنسان وثقافته ومواقفه وسلوكه وإدارة محور التغيير لديه وتوجيه قناعاته، وما يؤصله فيه من حس المسؤولية وسمو الفكرة وشغف الطموح في البحث والاستقراء والتجريب، حيث قال جلالته في العيد الوطني الرابع والعشرين المجيد: ” إن تحديات المستقبل كثيرة وكبيرة، والفكر المستنير، والثقافة الواعية، والمهارات التقنية الراقية، هي الأدوات الفاعلة التي يمكن بها مواجهة هذه التحديات والتغلب عليها. لهذا فانه لابد لنظام التعليم من أن يعمل جاهدا في سبيل توفير هذه الأدوات في الوقت المناسب تحقيقا للغاية التي من أجلها أنشئ وهي النهوض بالمجتمع، وتطوير قدراته وإمكاناته، ليتمكن من مواكبة مسيرة الحضارة في جميع الميادين. تلك هي مهمة نظام التعليم وواجبنا جميعا مساعدته في إنجازها على أفضل وجه ممكن”.
وعليه كانت مساحة الأمان التي يصنعها التعليم في حياة الفرد ، والفارق الذي ينتجه في سلوكه سواء وهو على مقاعد الدراسة أو بعد تخرجه منها، معيار لتقييم كفاءة التعليم وانتاجيته، وما يتركه من بصمه في حياة المتعلم شاهد اثبات على تحققه في الواقع واندماجه فيه وارتباطه به، وهو المؤشر الذي تعتمد عليه المجتمعات في تقييم دور التعليم وأثره في حياة الشعوب، فيؤسس في المتعلم ممكنات الحياة وألأمن والعمل والعيش والتعايش والسلام والحب والصفاء والنقاء والاحترام والتقدير للآخر وللمنجز البشري ، وإنتاج البدائل والحلول لمشكلات الانسان وتحدياته وبناء قواعد السلوك ونقل التعليم إلى نموذج عملي تؤطره شخصية المتعلم وتترجمه قدسية الكلمة التي يتفوه بها، وحصانه السلوك الذي يسير به في الناس، وروح المسؤولية التي يتعاطى بها مع المهام والمسؤوليات الملقاة على عاتقه، وفقه الحياة الذي يقيم به أمور حياته ويزن فيه احداث واقعه؛ فإن المتعلم يريد أن يجد في التعليم طريقه للحياة المتكاملة، حياة المهنة والوظيفة، حياة الأسرة والمجتمع، حياة الرفاق والجماعة، حياة المسؤولية والأمان، حياة النظام والقانون، ومعنى ذلك إن لم يكن التعلم قادر على توفير هذه الضمانات للمتعلم، فلن يكسب ثقته وسيتعامل معه بمنظور سحطي وممارسة تعليمية متكررة، لذلك ليس غريبا أن تجد بعض المتعلمين غير قادرين على التكيف مع معطيات واقعم الجديد، سواء في العمل والوظيفة، أو في التكاليف والمسؤوليات الأسرية والاجتماعية ، أو في طبيعة التعامل مع التحديات الحاصلة في الواقع، فتجده ينسحب بمجرد التعثر، ويتأثر من أبسط السقطات، فالفشل لديه نهاية الحياة ، والسقوط طريقه إلى الانتحار أو الانطواء والانسحاب من الواقع والاختفاء من عوالم البشر، وزيادة هرمون القلق والخوف والتنمر والانانية والاندفاع.
ويبقى على التعليم مسؤولية توظيف هذه الموجهات وتيسيرها لفهم المتعلم، وتبسيطها في نماذج تطبيقية وتجسيدها في مشاهد واقعية تقترب من حس المتعلم وقناعاته وتتناغم مع ابجدياته وعمليات التفكير لديه وتتفاعل مع خلجات نفسه ومسارات تفكيره، وعندها يشعر المتعلم بأن ما تعلمه في بيئة المدرسة والجامعة والمعد وغيرها من منصات التربية ومؤسسات التنشئة ، إنما هو مدد لحياة قادمة ملؤها التفاؤل والايجابية والاستقراء والبحث والنشاط والاجتهاد والعمل وتحقق فرص النجاح والأمل والأمن والأمان ، وأن ما يحمله التعليم في أهدافه ومناهجه وفلسفته وبرامجه وخططه وسياساته ونماذجه التطبيقية من مفاهيم ومعارف وخبرات وتجارب وقيم وأخلاقيات وفرص ونماذج محاكاة للواقع، وتطبيقات عملية واستراتيجيات أداء، ودوافع ورغبات، إنما تستهدف بناء شخصية الانسان المتكاملة ، قلبا وعقلا ونبضا وفكرا وعلما وعملا وخلقا وذوقا ، وفتح مسارات الحياة له بعد تخرجه، ليجد في نواتج التعليم وأثره هاجسه للعيش في عالم التحديات ، والتعاطي مع المنغصات الحاصلة بروح الانسان المتعلم الذي يمتلك حصانة التأثر ودافعية الإنجاز وكفاءة الأداء.
من هنا نعتقد بأن على التعليم اليوم مسؤولية بناء فرص أكبر للمتعلم لصناعة التفوق ورسم خريطة النجاح وتحقيق الأهداف عبر زيادة فرص التمكين وتحسين مسارات التعلم وتنويعه، وتيسير أدوات التعلم وتقنينها ، وتنمية فرص الحضور النفسي والذهني للمتعلم، وتوفير منصات التجريب والابتكار والاستقراء والبحث واشاعتها، وتعزيز نمو الحوافز والمسؤوليات، وترقية الدوافع وبنائها ، وتأصيل فقه التعايش والعمل الجمعي بين المتعلمين ؛ بما يعني أن على التعليم أن يعمل على تعزيز مبادئ التعليم المستدام ، وأن التعليم منهج لبناء الحياة ورسم معالم الطريق لمستقبل أفضل ، فيقوي في النفس قيمة التعلم الذاتي ، والقراءة ، وتوظيف الفرص، ورصد التفاعلات الداخلية لتكوين انموذج عملي لإدارة عمليات التعلم، بالشكل الذي يضمن قدرة المتعلم على الاستفادة القصوى من عمليات التعليم والتعلم في بناء مساره الحياتي وتكوين شخصيته وهويته وتعزيز قراراته وخياراته المعبرة عن إرادته ووعيه، فهل ستعي مؤسسات التعليم هذا التوجه وتجسده في واقع المتعلم لصناعة أنموذج مواطن متفرد قادر على العيش في عالم متغير وعوالم متعددة.