د. رجب بن علي العويسي – خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
مجلس الدولة
على الرغم من علامات الاستفهام التي تثار حول جاهزية التعليم وكفاءة أدواته في ظل أوضاعه الحالية التي ما زالت تتجه في أكثر حالاتها إلى ممارسة متكررة تفتقر لروح التجديد وحس الابتكارية، الناتجة عن تزايد التحديات وتراجع دور الممارسة التعليمية في الوصول بالتعليم إلى أولوياته الكبرى وأهدافه العظمي وتزايد المشكلات الداخلية في البيت التعليمي والتباينات في عمل مكوناته المختلفة وعناصر المتعددة والتأخر في مؤشرات جودة التعليم في ظل ما تشير إليه بعض التقارير الدولية( مؤشر دافوس لجودة التعليم وغيره)، إلا انه كما يبدو أن الأنظار ما زالت تتجه للتعليم كأهم الرهانات التي تعوّل عليها المجتمعات إنتاج فقه المواطنة وتأسيس المواطن الفاعل في بناء وطنه، القادر على توظيف الممكنات والأفكار والمبادئ والمرتكزات والفرص والتشريعات في تحقيق غايات وجوده ورسم ملامح التغيير الذاتي بما ينعكس إيجابا على واقعه الشخصي ومحيطه الخارجي.
ولعل هذه التفاؤلية بدور التعليم ترجع إلى ما يحتويه التعليم من فرص وممكنات واستراتيجيات وأدوات ومسارات تتيح له -إن توفرت الإرادة والعزيمة والقرار الاستراتيجي ووجه التعليم إلى تحقيق اولويات الوطن وارتبط فعلا بمتطلبات المواطن واحتياجاته في كل مراحله العمرية، وتأكدت وجود مرتكزاته الأربع لتعمل بشكل متكامل ومتناغم في بناء شخصية الفرد، يتيح له ذلك قدرته على انتاج واقع المواطنة المتجدد ، وتحصين البناء الفكري والنفسي والمهني لدى الأجيال عبر ما يمنحه من فرص أكبر للتأثير والاحتواء لسلوك المتعلمين وحسن توجيههم وبناء مدركاتهم الحسية والمعنوية، لتتفوق على كل المنغصات السلبية والأفكار السطحية التي باتت تحجم الوطن في ظل المصالح والامتيازات والمكافآت التي يحصل عليها الفرد كنتاج لخدماته المقدمة لمجتمعه، وتعزيز ثقافة الابتكار والنقد والتحليل وبناء الفرص وإدارة المشروعات وصناعة القدوات وإعداد القدرات وصقل الضمير وبناء الموهبة.
وعليه فإن قدرة التعليم على سبر أعماق هذه المدخلات وتوفير أرضيات النجاح لها في الواقع وتحويلها من عادات تمارس في إطار من المزاجية والشخصية والظروف والأحوال إلى كونها التزام ذاتي وشعور فطري ممنهج للدخول في العمق البشري واستخراج الممكنات النفسية والفكرية وإرادة الواعي لديه لتشكل تحولا في مسار العمل ونواتج الأداء؛ سوف يصنع من مواطنة التعليم مرحلة متقدمة في الأداء المهني المتناغم مع معطيات الواقع فيتعدى مفهومها جملة الحقوق والواجبات والمسؤوليات إلى استشعار فلسفة المبادئ والأخلاقيات والقيم التي يتمثلها نحو وطنه ، فيعي دوره فيقف عند مسؤولياته ، ويلتزم بما أقره المجتمع من قواعد للسلوك الأصيل والنهج السليم ، ليكون مساهمته في مجتمعه نابعة عن إرادة واقتناع ورغبة وحس وشعور ذاتي تنعكس على ولائه وانتمائه والتزامه، فإن مسؤولية التعليم لا تقف عند هذا الحد، بل أن تصنع من المواطنة علامة فارقة في الأداء وتنقل الممارسة الناتجة إلى سباق ميداني في خدمة الوطن ومنافسة لتقديم أفضل ما يمتلكه من أجل وطنه ليتميز بها ويتفرد على غيره في استدامة هذا الشعور .
على أن إدراك المجتمع لفقه المواطنة الذي أصله التعليم بشكل يتناغم مع طبيعة الظروف والأحوال التي يعيشها المجتمع، وقدرته على إعداد المواطن إعداد متكاملا لتقبل فقه المواطنة وسلوكها ومدخلاتها وعملياتها ونواتجها والشروط والواجبات التي تعكسها في الواقع، سوف ينعكس إيجابا على قدرة المواطن على تجسيد فقه المواطنة وترجمتها في واقعه الحياتي المعايش، وإدراكه لمتطلباتها ومعايشته لظروفها وتلبيته لاحتياجاتها، فتصبح المواطنة لديه أكبر من شعارات قولية بحب الوطن، لتتجه إلى صناعة الفارق فيصنع من وجوده في المجتمع قيمه مضافة تظهر في ولائه وانتمائه وحسه ونبضه وعلمه وعمله واختياراته وانتقاءاته وكتاباته وتصريحاته وحواراته ومناقشاته وانتاجيته واخلاصه واحترامه للمسؤوليات والتزامه في أداء وظيفته وإيمانه الصادق بالوطن والسعي له والعمل من أجله والتضحية في سبيله والتثمير في موارده والحفاظ على حقوقه وكبح جماح النفس من محاولة النيل من ثرواته أو استغلال الوظيفة بطريقة تسيئ إلى الوطن، بما تحمله من أخلاق المواطن ومبادئ الوطن، وترسمه معاني الولاء والانتماء والحب والعاطف الوطنية والنضج الفكري واحترام مقدرات الوطن وموارده وثرواته وحماية المال العام والوظيفة العامة وحسن أدائها والالتزام الوظيفي وغيرها، باعتباره نواتج لقوة المواطنة التي غرسها التعليم في نفوس الأجيال فتشربتها افئدتهم قبل حناجرهم وأدركتها نفوسهم ووعتها جوارحهم واستوعبتها قلوبهم قبل أسماعهم ، وغيرها ؛ وعندها لن يكون هناك من يسرق موارد الوطن أو يختلس ثرواته أو يسيئ للمال العام أو يستغل الوظيفة لتحقيق مصالحه الشخصية أو يخون الأمانة أو يظلم الناس حقوقهم أو يستولي على المناصب بالمحسوبية والتسلق على أكتاف المخلصين أو بالتزوير والغش والرشوة ، أو أن يجعل من نفسه وصيا على مقدرات الوطن وموارده فيتحكم فيها ويستخدمها بدون وجه حق.
عليه كان على التعليم في ظل هذه المساحة الواسعة التي يمتلكها وعبر عناصره المختلفة ومساراته المتنوعة وبيئاته التي تحتوي التنوع؛ أن يبسط شراع الأمان، ويقوي عزيمة الايمان، ويرسم خريطة المستقبل ويستثمر إرادة التحدي وفرص المنافسة ، ويؤسس لفرص أكبر لتجسيد التسابق الميداني في حب الوطن وتعميق مسارات المواطنة لتجري في الأجيال منذ نعومة اظافرهم جريان الدم في العروق ، ويبتكر في تحقيق ذلك الأنشطة والتجارب والمبادرات والفرص والاستراتيجيات المجسدة للمواطنة في حياة الأجيال ، لتنطلق من بيئة المدرسة والجامعة والمعهد، وتحلق في فضاءات الحياة القادمة التي يعيشها أجيال الوطن ومواطنيه، ليكون التعليم له مدد قادم يكتسب منه كل صفات القوة ويستنهض من خلاله كل مقومات الأداء وفرص النجاح، ويجد في التعليم المساحة التي يعبر عنها في حب الوطن والتميز والتفرد في نقل هذا الحب إلى استراتيجيات حياة ، فهي مغذيا ت روحية وفكرية ونفسه ومهارية تنطلق منها قناعات المواطن واستعداداته وجاهزيته للمستقبل، وعندها تكثر القدوات وتنهض الهمم التواقة للعطاء ويقل عدد المتسلقين على أكتاف العطاء والانجاز المقدم من الآخرين، كما تزيد فرص تحقيق الامنيات والابهار والابتكار وشحن الدوافع بالإيجابية والمبادئ والقيم المؤسسة لنهضة الاوطان .
من هنا نعتقد بأن قدرة التعليم على انتاج المواطنة وتأسيس المواطن؛ إنما هي نتاج لما يؤسسه من فرص صناعة الإخلاص والمخلصين وتقدير التميز والمتميزين، وترقية فرص النجاح والفكر الخلاق والعطاء المستدام، والمبادرات المجيدة، وتثمير المنجز والمحافظة على الكفاءة واستثمار الأدوات وتصحيح الممارسات وصناعة التجارب وصقل الخبرات واحتواء الكفاءات الوطنية وإعادة توجيه المسار التعليمي بشكل يحقق متطلبات المرحلة، ودور التعليم في زيادة البدائل وتوليد الحلول في التعاطي مع القضايا التي باتت تمس امن الوطن والمواطن والتي يجب على التعليم أن يحدد لها مسارها ويبرز موجهات عملها ، فإن قضايا الأمن الاجتماعي والاستهلاك والجريمة بالإضافة إلى التقنية والابتكار والهوية وريادة الأعال والبحث العلمي وبحوث الطاقة الحيوية والطاقة المتجددة والطاقة النظيفة والفضاء وغيرها مساحات عملية تنتظر من التعليم قدرته على إدارة واقعها وتصحيح الممارسات التي باتت تهدد أمن الانسان وكيانه ، فيصنع لها في فقه المتعلم ومناهج التعليم وطرائق التدريس وأساليب التعلم حضورا يعزز من قدرة التعليم على الارتباط بالحياة واستجابته لمعطياتها، ومن خلال ذلك يؤسس في فكر المواطن وقناعاته محطات يبرز فيها تفوقه وانتاجيته وقدرته على التفاعل مع مختلف الازمات المالية والاقتصادية والاجتماعية بكل مرونة ويسر .
ويبقى ان نشير إلى أن تمكين التعليم من إنتاج فقه المواطن، يستدعي امتلاكه لمفاهيم المواطنة وإعادة تفسيرها وتصحيح مسارها وتوفير فرص تقييمية لها في واقع حياة المتعلم وتبني أدوات قياس مستوى تقدمها في مسيرة حياة المواطن ومراحله العمرية والوظيفية المختلفة ، من خلال قدرة التعليم على تبسيط هذه المفاهيم لتقترب من فكر الأجيال، ووضعها في مواقف محاكاة الواقع وتجسيدها في حياة المتعلمين في ظل ما تضمه بيئة التعليم من تفاعلات واحداث وممارسات وأفكار وتوجهات واختلافات وتباينات، فهي الصندوق الذي يجسد معالم الحياة اليومية في المجتمع ، ويصبح الموقف التعليمي معمل تجريبي مصغر للوطن الام والحياة بأكملها، تظهر في ظل المبادئ والقيم والقوانين والتشريعات التي تنظم جودة الحياة التعليمية، وبالتالي فإن قدرة التعليم على تأسيس هذه المنطلقات وبنائها في فقه المتعلم منطلق لقدرته على انتاج فقه المواطنة في المجتمع، فيقيم مساره ويعي موقعه ويدرك مسؤولياته ويحسن من كفاءة أدائه ويصنع من الفرص المتاحة له انموذجا للعمل من اجل المواطن. فهل سيصنع التعليم هذا التحول في قراءته لمنظور المواطنة وتعاطيه مع مفاهيمها لتوليد شخصية المواطن المنتج الذي تحتاجه المجتمعات ويتكيف مع طبيعة الظروف التي تعيشها أوطان اليوم، وهل سيجد التعليم في ظل نهج المواطنة الذي يبنيه في سلوك المتعلم مدخلاته في معالجة مشكلات التنمر والتسرب والهدر الحاصل في واقع التعليم؟