د. رجب بن علي العويسي
يطرح موضوعنا في واقعه المعايش شجون كثيرة وآمال كبيرة، ويضعنا أمام هواجس عظيمه وأحلام متعاظمة، ويثير أحيانا الاستغراب والامتعاض والأمل والشفقة، إذ كيف يُطلب من مؤسسات التعليم والمراكز البحثية المنتشرة في المؤسسات التعليمية إنجازات وهي ما زالت مكبلة بقيود البيروقراطية ومفاهيم الرجعية وانتظار حكمة المسؤول وموافقته؟ ويرى البعض الآخر أن المشكلة ترجع إلى السقف المطلوب من مؤسسات التعليم ذاتها ومدى وضوح ذلك للقيادات، إذ ممارسة دور الاكتشاف والاختراع والابتكار ممارسة اصيلة في التعليم ومن أولويات مراكز البحوث والهدف الذي أنشئت من أجله والحديث عن هذا الموضوع إنما هو حديث عن اختصاص أصيل لها في انتاج مستلزمات وحلول الواقع، ويرى أخرون بأن المسألة مرتبطة بالكفاءات العاملة في هذه المؤسسات ومستوى التمكين والحوافز والصلاحيات الممنوحة لها وهو مما تفتقر إليه في الواقع العملي بما انعكس على نشاطها في مجال الابتكار والاكتشافات؛ في حين يرى البعض أن المشكلة في كل هذا الأمر أنما ترتبط في الأساس بفجوة التشريعات والقوانين التي لا زالت تحدد هذه المهمة وتقلل من مساحة الاهتمام بها، إما لعدم توفير الضمانات التي تمنح للمبتكرين والعلماء المتخصصين في الاكتشاف والبحوث المختبرية والتجريبية؛ أو فيمن يتبنى ابتكاراتهم واختراعاتهم وانتاجهم ويضمن لها التنفيذ في أرض الواقع ، وغيرها من التباينات التي ما زالت تبحث عن مسار واضح يصنع لهذه المجالات حضورها ويبني لها أرصدتها ويؤسس لها تفوقها في وقت نبحث فيه عن أمل لانفراج الازمة وتجاوز الكربة وزوال الغمة واستعادة أسارير الحياة التي توفرت لنا لنعيشها من جديد ، ولإيماننا العميق بأن الدعاء بتفريج الكربة وزوال الغمة لا يكفي وحده ولا يعطي الحق في الانفراج بدون ألأخذ بالأسباب وإعطاء المسببات مساحة أكبر من التشخيص والتأمل والتبصر والوقوف على الواقع.
عليه كان طرحنا للتساؤل السابق، مساحة لإعادة توجيه المسار لهذه المراكز وبناء رؤية استراتيجية تقف فيها مراكز البحوث بالجامعات ومجلس البحث العلمي وغيرها على الدور المأمول منها في تحقيق رؤية الوطن في التعاطي مع هذه الجائحة وتوجيه كل الممكنات والامكانيات للحيلولة من انتشار المرض ؛ وبالتالي ما يفترض أن يرافق ذلك من جهود هذه القطاعات في طبيعة التصرف المأمولة والجاهزية المطلوبة والدور المرتجى منها في هذا الشأن ، والآلية التي يجب أن تنتهجها في التعاطي مع هذه الظروف، وعبر توظيف وتفعيل الشراكات الطبية والبحثية التي تؤسسها مع جامعات العالم المتقدمة ومراكز البحوث الدولية في انتاج العقاقير الطبية والامصال وغيرها، بحيث يتجاوز دورها حالة الانتظار السلبي بما يصل إليه العالم المتقدم وتتبع ما يفعله الآخرون ويقدمونه للعالم من إنجازات؛ فهي إذا مرحلة تتطلب تواجد الاختصاصيين والعلماء في المختبرات والاكتشافات ، إذ دورهم في هذه الظروف أعمق أثرا واشد أهمية وأعظم تحديا، إنهم من يؤسسون التقدم وينتجون القوة، ويقفون على موطن التحدي، ويسخرون أسباب الأمل ويبنون الإرادة ويصنعون الفارق ، ومع هذه الجائحة التي ألمت بالبشرية ما زال علماؤنا المتخصصين في مجالات الطب والصحة والأمراض والاكتشافات يغردون باكتشافات الاخرين وينقلون في صفحاتهم أخبار عالم الطب والمستجدات الدولية الحاصلة في التعامل مع المرض، في حين ما زلنا مستهلكين سلبيين حتى في الأفكار والتعاطي مع الأخبار، ما الإنجازات البحثية والعلمية والطبية والصحية والدوائية التي حققتها أكثر من 15 مركزا بحثيا بجامعة السلطان قابوس ومؤسسات التعليم العالي العامة والخاصة ووزارة التجارة والصناعة ووزارة الصحة وغيرها كثير في التعاطي مع كورونا، وأين براءات الاختراع التي تم تسجيلها منذ بدء انتشار الوباء؟ وأين دور الشركات في انتاج المستحضرات الدوائية والوقائية مثل الكمامات والاغطية والقفازات والمعقمات والمطهرات وأدوات التنظيف وغيرها من اللوازم التي تستخدمها المعامل الطبية المخبرية والمختبرات أو يستخدمها العامة لمنع انتشار الوباء، وما موقع هذا الوباء في أجندة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ؟
لقد استفاد العالم المتقدم في البحث العلمي والتجارب المخبرية من هذه الجائحة فالصين التي عم الوباء أراضيها وأرهق اقتصادها وأغلقت حدودها ومطاراتها وموانئها وفرضت حضر التجول على بعض مناطقها وبلدانها، اتخذت مسارات واضحة في ألية تعاطيها مع الفيروس فقد رافق ما اتخذته من إجراءات احترازية مشددة في منع الناس من الاختلاط والالتزام بالتعليمات والنشرات التي تصدرها جهات الاختصاص؛ تفعيل منظومة البحث العلمي ومراكز البحوث الطبية وتنشيط حركة المختبرات والجامعات في البحث عن علاجات وإنتاج صناعات دوائية ووقائية لهذا المرض، إذ عززت أروقة مؤسساتها ومراكزها البحثية ومختبراتها الطبية بجهود أكبر للعلماء والأطباء والباحثين والعاملين الصحيين والاستشاريين وذوي الاختصاص وشركات الإنتاج الطبي وشركات الادوية والعقاقير الطبية وإنتاج الامصال واستقراء وتجريب للعينات المصابة وغيرها، وها هي اليوم تتعافى تدريجيا من الأزمة حتى أصبحت المصدر الرئيسي للقاحات والمعدات الطبية والأجهزة المضادة للفيروس للعالم، في حين أن مؤسسات التعليم العالي والجامعات ومراكز البحوث والمختبرات في واقعنا ما زالت ذات طابع استهلاكي غير قادرة على تحقيق إنجازات مشهودة في المجال أو تسجيل براءات اختراع يمكن أن يشار إليها بالبنان، وما زال تشجيع البحث العلمي والباحثين الاستراتيجيين المتخصصين والاطباء والاستشاريين في اقتحام عقبة التحدي غير وارد في مختلف مراحل التعامل مع هذه الجائحة، فلقد أحرج فيروس كورونا ( كوفيد 19) هذه المؤسسات والمراكز البحثية وأفصح عن مستوى الجاهزية والكفاءة التي تمتلكها، إذ كان تقييم عملي لها واختبار لمدى قدرتها على تجسيدها للرصيد التعليمي والخبراتي للتجارب والمعلومات والمعامل المخبرية في الواقع الوطني ، وفي قدرتها على سرعة الوصول إلى قرار جرئي باتخاذ خطوات فعلية في انتاج الحلول للواقع سواء بالعلاج او تقديم براءات اختراع جادة فيه، على أن تكاتف جهود مؤسسات التعليم ومراكز البحوث والمعامل الطبية وشركات الإنتاج الصناعي في العمل معا على إجراء الدراسات التشخيصية والمسحية ودراسات الحالة والبحوث العلمية المخبرية واختراع الأدوات والمستلزمات الطبية والادوية والعقاقير التي توفر ضمانات لمقاومة الفيروس ومعالجة المصابين به، او عبر تعزيز اقتصاد التعليم والاستثمار فيه من خلال الشركات الطلابية الصغيرة والمتوسطة، وريادة الأعمال في المشاريع التي تقوم على الابتكار والذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، والفرص التدريبية التخصصية التي يوفرها التعليم للباحثين المتخصصين والكادر الصحي والممارسين الصحيين في انتاج مستلزمات وحلول التعامل مع الفيروس؛ الرهان الوطني الذي يصنع مجتمع القوة في تدارك متطلبات هذه الغمة والتقليل من خطرها على الوطن والمواطن، بما يعني أن على التعليم أن يوظف هذه الجائحة ويستثمرها في تحقيق تحوّل في طريقة التعامل معها أو في اكتشاف أمصال العلاج لها أو تعزيز الصناعات الدوائية والوقائية والاكتشافات التي تساهم في الحد من انتشاره وتقلل من خطر الإصابة به وتعزيز الفرص للقطاع الخاص والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والشركات الطلابية في انتاج الحلول ومتطلبات الحد من انتشارها بين السكان.
ويبقى الطموح في إعادة هيكله هذه المراكز عامة وتأطير هذا الاختصاص في عمل المؤسسات التعليمية والبحثية وتوجيه مسار المراكز البحثية وحسن توظيفها والاستثمار فيها وتعزيز الكفاءة الوطنية بها وتوفير التشريعات والحوافز والصلاحيات التي تتيح لها فرص دراسة الواقع الوطني وتجلياته خاصة ما يتعلق منه بالأوبئة والامراض والأزمات، ونقلها من حالة الركود المؤسسي وانتظار التعليمات وإخراجها من عباءة الروتين والممارسات المتكررة والبيروقراطية والاستهلاكية والاجترار المعرفي والمعلوماتي؛ إلى إيجاد تشريع وطني يصنع لمراكز البحث العلمي المتخصصة مساحة اكبر في الاكتشاف والاختراع ويمنحها مرونة وأريحية في استنطاق الأفكار وصناعة النماذج التطبيقية، الطريق الذي يجب أن يسلك في تمكين المراكز البحثية بالجامعات والمستشفيات والمؤسسات على التعاطي الواعي مع فيروس كورونا المستجد، وبالتالي حجم الآمال المعقودة على هذه المؤسسات والجامعات ومراكز البحوث والمختبرات الطبية المركزية المتخصصة ومراكز الابتكار الصناعي في إنتاج مستلزمات وحلول واقعية للحد من انتشاره والقضاء عليه، من خلال اكتشافات طبية ومنتجات صحية داعمة للجهود الوطنية والدولية في الحد من انتشار مرض كورونا ( كوفيد 19)، لتبقى طموحاتنا قائمة بأن يحرك التعليم ساكنا ويصنع له حضورا ويقوي من مساحة البحث والرصد والتشخيص والتمكين ، مرحلة مهمة في صناعة الفارق، وقفات وتساؤلات نعتقد بان الجميع يحمل هاجسها في نفسه ويطرحها على واقعه ليبقى التساؤل مفتوحا أين يقف دور مؤسسات التعليم والبحث العلمي بالسلطنة من هذه الجائحة العالمية ، وهل سيبدو في القريب العاجل فرجا قادما يبدأ في تحسين صورة التعليم في التعاطي مع الجائحة ويعلن عن اكتشافات وبراءات اختراع نفاخر بها العالم؟