د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس مجلس الدولة
في ظل هاجس الترقب والخوف الذي يعيشه ملايين البشر حول العالم، الناتج عن انتشار فيروس كورونا( كوفيد19) ، وارتفاع معدلات القلق لدى الجميع على مستوى الافراد والاسر والمجتمعات والحكومات بل والعالم كله، وما اتخذته دوله من إجراءات وتدابير احترازية للحد من انتشاره ، كان على مؤسسات المجتمع جميعها أن تتخذ خطوات جادة وآليات واضحة في سبيل العمل معا في اتخذا قرارات مشتركة تصنع الفارق وتحقق الإنجاز وتبني محطات نجاح، وعبر استشعار المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية والوطنية التي استدعت تفعيل خطوط التأثير الاستراتيجية في التقليل من الخسائر أو الحد من الأضرار المترتبة عليه.
ولما كان التعليم أهم بوابات الدخول للمستقبل ومن أكبر المؤثرين والفاعلين في بناء الوعي وتصحيح الممارسة وتوجيه المسار، وبناء استراتيجيات الحياة، وتعزيز ممكنات القوة النفسية والفكرية، وصناعة القدرات، وإنتاج القدوات وفي ظل ما يمتلكه من أدوات وأطر وفرص وموجهات ومنصات لصناعة التغيير، لذلك كان عليه أن يتدخل بمهنية وعبر سياسات واضحة واستراتيجيات محكمة وبرامج مؤطرة وأدوات مقننة مستفيدا من الحضور المجتمعي والشعبية الاجتماعية التي يحظى بها مدخلا لإعادة رسم المسار، وعبر توظيف مؤسساته العلمية ومراكزه البحثية ومنصاته الإعلامية والتوجيهية والتثقيفية والممارسين الميدانيين في التعليم من معلمين وطلبة وشركاء من داخل المنظومة وخارجها في تبني برامج نوعية مبتكرة تعمل على خفض درجة القلق المجتمعي المرتبط بجائحة كورونا، والناتج عن جملة الممارسات السلبية المتعلقة بتداول المعلومة غير الصحية والاشاعات وما سببته من مخاطر أسهمت في زيادة مستوى القلق النفسي واتساع ثورة بركانه في حياة الناس وهي تقرأ أو تتابع عبر منصات التواصل الاجتماعي وقنوات الاعلام تلك المشاهد المؤسفة التي يعيشها العالم، وبالتالي ما يطرحه ذلك على هذه المراكز والمؤسسات التعليمية والبحثية من تبني الدراسات المتخصصة والعميقة عن هذا الموضوع وعبر تبني الدراسات المسحية والتشخيصية للتعرف على اثر درجة القلق في زيادة مستوى الإصابة أو الوفاة بهذا المرض وأيضا لمساعدة الممارسين الصحيين في التعامل مع هذا الواقع وسد مداخل هذا القلق كخطوة استراتيجية في التقليل من مخاطر هذا المرض وانتشاره بين السكان.
لقد واجهت التعليم في ظل هذه الجائحة العظيمة تحديات كبيرة، تجاوزت مسألة تعليق الدراسة في المدارس والجامعات والمعاهد والكليات وبرامج التعليم والتدريب للحد من انتشار المرض واستفحال أمره، ودرءا للمخاطر الناتجة عن الاختلاط والتجمعات في ظل ما فرضه كورونا على العالم من عادات جديدة وآليات تقوم على تعزيز التباعد الاجتماعي ومنع كل اشكال التواصل المجتمعي المباشر التي تحمل في ذاتها طابع التجمع ، لتبقى مسؤولية التعليم ماضية في البحث عن مستلزمات وحلول للواقع الذي تعيشه المجتمعات وحالة الاضطراب النفسي والفكري والقلق التي باتت المؤثر الأكبر في معادلة المعالجة التي يحاول العالم أن يحققها من خلال سرعة تنفيذ الإجراءات الاحترازية ، لتضع التعليم أمام مسؤولية تقديم تحول نوعي في مسيرة عطائه في تقديم حلول ناجعة لهذه الجائحة، من خلال تعزيز الاكتشافات العلمية وإنتاج العقاقير الطبية والأمصال والإنتاج الصناعي المبتكر لأدوات التعقيم والتنظيف والتطهير وغيرها لتقدم الدول الداعمة للبحث العلمي والابتكار وبراءات الاختراع مسارا متجددا ينهض بدور التعليم ومسؤولياته في إعادة انتاج الحياة والأمل وفتح نوافذ العطاء والانجاز، وهو يرتبط بمسؤوليته في الاعلاء من قيمة التقنية ودورها في رسم ملامح التعليم أو قدرة التعليم على توظيفها بشكل يخدم مناهجه وفلسفته واستراتيجية عمله من خلال فرص التعليم عن بعد وتوظيف المنصات الالكترونية التعليمية في القيام بأنشطة تدريسية وتعليمية محاكاة للواقع الصفي أو في قاعات التدريس؛ بالإضافة إلى مسؤولية التعليم في خفض درجة القلق والخوف وتقليل حاجز الذعر التي تعيشها المجتمعات نتيجة لانتشار فيروس كورونا ، وبالتالي حجم الدور الذي يجب أن يقدمه التعليم في الواقع الاجتماعي وحركة التغيير الحاصلة في المسار الاجتماعي، ليكسب ثقة المجتمعات فيه ويؤسس لمرحلة جديدة يبرز فيها التعليم كمدخل استراتيجي لصناعة الحياة وبناء المستقبل وحماية الانسان والمحافظة على هويته وكيانه، وعبر تعزيز الشحنات الإيجابية وخلق المسارات التفاؤلية والتفاعلية التي تضمن تقليل حاجز الخطر الناتج عن تزايد أثر القلق النفسي والفكري المرتبط بهذا الجائحة ، والذي يمثل تحديا يفوق كل التحديات الأخرى، إذ انه يقضي على حاجز المناعة لدى الفرد والمجتمع بالبقاء والصمود، والذي يفترض ان ينمو مع الشخص المصاب أو المجتمع في مواجهة المرض ، وتحقيق أعلى درجات القوة للوصول إلى مرحلة التشافي منه.
إن مسؤولية التعليم في ظل جائحة كورونا، العمل جنبا إلى جنب مع قطاعات المجتمع الأخرى في ترقية النوازع النفسية وبناء فرص الامل في الحياة، وتخفيف حالة القلق والتوتر والخوف الناتجة عن أحداث الرعب التي تركتها هذه الجائحة ، وحجم القلق الدولي المصاحب لطريقة التعاطي معها والتعامل مع أدواتها وسيل التحذيرات والإجراءات القسرية والاحترازية المتبعة في هذا الشأن والتي لم يكن هدفها القضاء على الفيروس بقدر ما كانت لابطاء عملية انتشاره كل ذلك وغيره يضع على التعليم مسؤولية البحث في العمق البشري ودراسة التغيرات التي تحصل فيه، وإيجاد ممكنات فكرية ونفسه ووجدانية يستطيع من خلالها أن يتكيف مع واقعه ويتعايش مع معطياته ويتجاوب مع مستجداته، ويخلق مساحة أمان يستطيع من خلالها النفاذ إلى العوالم الأخرى وفهم موقعه منها؛ بما يضع التعليم أمام مسؤوليته في إيجاد مساحة أمان فكرية ونفسية وترويحية وخلوة مع الذات يستطيع من خلالها مواجهة حالة القلق وفقدان الأمل بالنفس وبالحياة التي يعيشها في ظل أحداث كورونا بمزيد من الصبر والتحمل والتفكير الايجابي ومعايشة الواقع المتجدد لضمان انطلاقة افضل وعزم اكيد ورؤية أوضح ومساحة استراحة لإعادة البناء والتجديد في التعامل مع كورونا وهو الذي سيمنحه مزيد من القوة والتحمل والالتزام واتخاذ كافة التدابير والإجراءات الاحترازية ليطبقها عن نفسه ويستشعر مسؤوليتها في الحد من انتشار المرض وعبر الالتزام بالقرارات والاجراءات المتخذة في هذا الشأن.
ولما كان القلق والخوف الذي يصاحب كورونا من اكثر المخاطر التي تسبب حالة من التشنج الفكري والنفسي في استيعاب الحالة، يضاف إلى ذلك سيل المعلومات والمعارف، والطريقة التي يتناقل بها المعلومات وما تحمله من اثارة للرأي العام وترويج، أو الطريقة وأسلوب الخطاب التي يتعامل بها الاعلام بمنصاته وفضائياته مع الجائحة وهي تصور الواقع الذي يعيشه الاطباء والممرضين الصحيين والعاملين الصحيين أو حالة الارتباك وكثرة التشويش الحاصلة في التعامل مع حالات الوفيات اليومية الناتجة عن المرض حول العالم، أو من حيث تزايد عدد الإصابات بالفيروس مقابل حالات الشفاء اليومية وتركيز الاعلام في أكثر احواله على الإصابات وأعداد الموتى، لتصل إلى العقل اللاواعي لدى الفرد فتصيبه بحالة من عدم الاتزان الناتج عن ازدواجيه هذه المعلومات وتباينها، وما تحمله من حجم التهويل في الموقف أو في لغة الوصف أو طريقة السرد للحالة، فتنتزع منه حالة الاستقرار النفسي؛ كل ذلك وغيره ساهم في رسم علامات الحزن والالم وأعطى لمقياس القلق والخوف مبررا في الصعود والارتفاع مما عزز من تزايد حالات الإصابة ، كما ارتبطت حالة فقدان المناعة الجسدية لدى الأشخاص المصابين مع زيادة درجة القلق والذعر، ارتبط بفقدان المناعة النفسية في التكيف معه والتي أسهمت في تزايد عدد حالات الإصابة والوفيات في المجتمعات.
وأخيرا وفي ظل حالة القلق والخوف والرعب التي بات يعيشها انسان اليوم في ظل جائحة كورونا ، المشحونة بالكثير من الأحداث والمتغيرات والأوهام الداخلية التي بات يعيشها الانسان، والمؤثرات الخارجية التي تصنعها عملية التفاعلات اليومية والمشاهدات الواقعية لمواقف وتصرفات وظروف الآخرين وطبائعهم الحياتية، وحجم الاشاعة وتداول المعلومات الكاذبة والاخبار التي تبرز في اسطرها التكلف والازدواجية، وولدت حالة مستديمة من الشعور باليأس والإحباط وفقدان الثقة بالنفس وضعف الأمل في الحياة وحالة التذمر والضيق وغيرها من الموجهات النفسية التي باتت تسيطر على حياة الناس في ظل جائحة كورونا؛ كان علي التعليم أن يقوم بمسؤولياته في معالجة هذا الواقع المتأزم والتخفيف من حدة الظروف القسرية ووضع الاستراتيجيات النفسية والفكرية القادرة على تصحيح هذه المفاهيم وإعادة توليد القيم والمفردات الحياتية اليومية التي تحفز النفس على التحمل والصبر والايجابية والمزيد من الوعي وعبر التقيد بإجراءات التباعد الاجتماعي وعدم الخروج من المنازل إلا للضرورة ، واتباع العادات الصحية عند السعال والعطس وغسل اليدين بالماء والصابون وغيرها، بحيث يبني التعليم في النفس وفي ظل ما يمتلكه من بدائل وفرص ومقومات نجاح وتعددية في الأساليب؛ دعامات القوة واساسيات المعالجة ونقاط التقييم ، ويبقى على مؤسسات التعليم اليوم في ظل مساهمتها في الحد من اتساع أثار جائحة كورونا ان تضع مؤشر الاستقرار النفسي والفكري وخفض درجة القلق والخوف وشبح الأوهام التي تلاحق الافراد في ظل تزايد حجم الاشاعة والتسارع الحاصل في تداول الأخبار والمعلومات التي تزيد من الشحنات السلبية أحد أهم مسؤولياته في التعاطي مع جائحة كورونا ( كوفيد 19)، وعندها يصبح التعليم منصة حياتية ترافق الفرد وتتعايش معه في وقت الازمات والجوائح ، فيتزود منها ما يعزز وجوده ويبني حياته ويطور مهاراته ويصقل ذاته في مواجهة احدث هذه الجائحة واثارها السلبية على حياة البشر .