فهد بن خميس العبري- طالب دكتوراه فلسفة في اللغة العربية
تفاؤُلك مع الأخذ بالأسباب، وتوقُّعك الخيرَ دون تقصيرٍ أو توانٍ؛ ليس غفلةً منك ولا غباء، ولا سذاجة أو سوء فهمٍ للأمور، بل هو هديٌ نبوي، واستقرار نفسي، وخطوة في طريق الإنتاج، وحكمة في العقل، وإدراك لطبيعة النفس البشرية.
وإن شئت فسل أولئك الذين يُمطرونك كلَّ صباح في (الواتس) برسائل اليأس، وظنون السوء، والتوقّع الأسوأ لكلّ قادم، ويستقبلونك في كل لقاء بأشأم الأخبار، ويجعلون الهمّ الواحد مُنْسيًا كلَّ نعمة، وما أجمل قول أحدهم: “لا تجعل همًّا واحدًا يُنسيك ألفًا من النعم”، سلْ مَن يرون في كل خيرٍ شرًّا، وفي كل فعلٍ خبيئةَ سوء، وفي كل جميلٍ قبيحًا قادمًا ولو بعد سنين، (تأمل..ولو بعد سنين!!))، مَن يكرّرون الخبر السيئ نفسه في كل جلسةٍ دون تقديم أي حلٍّ إلا التذمّر، نعم لا شيء غير التذمر! مَن يصيبهم الهمُّ لكل صغيرةٍ أو كبيرةٍ وإن لم يحدث! ويقترضون الشرَّ قبل وقوعه، مَن يصيحون ويولولون على أمر (قد) يحدث بعد خمس سنوات لمجرّد استمطار الحزن دون عملٍ، أو أَخْذٍ بحجزة الأمر محاولين أن يكون -إذا نزل- أقلَّ ضررًا، مَن يتواصَون أن الخير في الناس معدوم كما يتواصى عقلاؤهم بالحق والصبر، مَن يتوارثون التشاؤم كما يتوارث الناس المال!
سل كل أولئك المتظاهرين-حال تشاؤمهم المفرط- بالذكاء، وقراءة الواقع، أتراهم يكتسبون-حين يرون الدنيا ظلامًا في ظلام- غير الهمِّ المُعجّل، والحزن المُقَدّم، وعدم الاستقرار، فضلًا عن الضيق والكآبة، والصدود عن أي إبداع يقدّمونه، أو منجزٍ ينثرون شذاه؟
حين يقرؤون نحو: اعقلها وتوكّل، خذ بالأسباب؛ فَرَبُّ الخير لا يأتي إلا بالخير((بيدك الخير)) الآية، والله معك؛ فلا تحزن ((لا تحزن إن الله معنا))، والفتح منه–سبحانه-قادم ((فعسى الله أن يأتي بالفتح))، هو القادر على جعل الصعب سهلًا ((لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا))، قال يعقوب عليه السلام: ((عسى الله أن يأتيني بهم جميعا))، فكان ما أراد.. حين يقرؤون شروى هذه العبارات فإنهم لا يَفتؤون يسكبون (وهج!) تشاؤمهم مدّعين أن هذا مجرد كلام نظري، وأنه بخلاف الواقع، وكَيتَ وكَيتَ، على رغم أن الواحد منهم لو تأمّل في نعم الله المنثالة عليه انثيال البرَد لألفى نفسه غارقًا في بحر النعم، معانقًا كل جميل، بل إن هذا المتشائمَ عينَه لو أنعمَ النظر في الأحداث التي استعجل جَنيَ همومها قبل حدوثها لوجد أن الذي تحقّق مما أرهق به نفسه-تفكيرًا وحزنًا-قليل! لذا فإن التعاملَ مع كل مشكلةٍ بما يناسبها، وكل ملمّة بما يوائمها دون إفراطٍ ولا تفريطٍ هو الحكمةُ المعهودة، والغاية المنشودة؛ إذ يورث في النفس راحةً، ويكسوها طمأنينةً، ويجعلها تنظر للأمور نظرة اعتدالٍ لا يشوبها تعجّلُ الموغلِ في التفاؤل، ولا تقاعسُ المفرطِ في التشاؤم.
ولا يعني هذا أن يترك الإنسان إصلاح ما يرى من خطأ بدعوى التفاؤل، بل السعي لتعديل الخطأ-أيًّا كان نوعه- غايةُ العقلاء، ومطلب الألبّاء، وإنما المحذور المبالغة في التشاؤم المفضي بالمرء إلى القعود عن السير في طريق الله، والسعي في سبيل الإنتاج، والمؤدّي به إلى أن تظلم الدنيا في عينيه حتى لا يكاد يرى منها غير القتامة والظلام، بل لا يكاد يحس بالفرح وإن أحاطت به أسبابُه، واكتنَفته آثارُه؛ لأنه لم يعد يرى في الجمال والنفع ما يراه العقلاء من ذوي التفاؤل. ومِن أسفٍ أن يظنّ بعض الناس أن الدعوة إلى التفاؤل هي دعوة إلى الرضا بالدون، أو الاكتفاء بمشاهدة الخطأ ينخر أديم النفس أو الأسرة أو المجتمع أو العمل دون إقدامٍ على تصحيح، أو مبادرةٍ بتصويب، وهذا مخالف للعقل والواقع معًا. فأما مخالفته العقل: فأي فائدة من تفاؤل لا يشفعه عمل، وسرورٍ لا يصحبه إنتاج؟! وأما مخالفته الواقعَ فإن الواقع يثبت-بشواهد لا تخطئها عينُ المتأمَل- أن المتفائلين هم أكثر الناس سعادة، وأعظمهم إنجازًا، وأن المبالِغين في تشاؤمهم هم أحرص الناس على كسل ودعَة، وأبعدهم عن إنجاز ورفعَة، جُلُّ ما يحسنونه الوقوفُ على أطلال الأخطاء، وسكب نار التذمر عليها!
وختامًا لا بد من إشارة كامنة في النفس تأبى إلا الخروج إلى ميدان الكتابة الفسيح، ونفثة مصدور لا يهدأ بالها إن خلا المقال منها مناديةً بأعلى صوتها: التشاؤم والتذمر-يا صديقي القارئ- يتقنهما كل أحد، أما المبادرة للعمل فهي المحتاجة إلى عمل يتعدى حدود الآهات والزفرات إلى عالم التنفيذ والإنجازات، وهي-المبادرة- التي تُصدّق (تنظير) المرء وتُكذّبه، فإن كان صادقًا فليُرِنفسه وكلَّ مَن له حق عليه خيرًا، وإلا فلا يتعنّ! أما الثرثرة فكلأ مباح لا يحتاج إلى أكثر من لسان!! بادر بإصلاح كل خطأ في نفسك وأهلك وذريتك ومجتمعك، ولا تكتفِ بمشاهدة الخطأ ووصفه؛ فإن مرحلة الوصف يتبعها علاج، واجعل خالجة التشاؤم سحابة صيف، ولمحة طيف لا تلبث إذا غشيَتك أن تفارقك دون إطالة، وإذا نزلَت بك أن تفرَّ منك إلى غير رجعه، ثم ترجع بعدها إلى فضاء التفاؤل المريح، وجمال الاستبشار الفسيح حيث العمل بأطنابه ضارب، والإبداع بكلكله مُنيخ.