د. رجب بن علي العويسي
“كوفيد-19″، محطة استراحة لالتقاط الأنفاس، ومراجعة شاملة جادة مقنعة للتعليم، سياسته وخططه وبرامجه وممارساته، والوقوف على حجم التغيير الذي يجب أن يحدث في هيكلته ومساراته، وفلسفته وممارساته بما يستجيب لأولويات رؤية عمان 2040، ويقف على العثرات التي أفصح عنها كوفيد-19، وأعجزت التعليم عن توفير الحلول والإستراتيجيات والبدائل للكثير من القضايا التي ارتبط بهذه الجائحة وبشكل خاص ما يتعلق منها بجاهزية التعليم لتوفير مظلة أمان نفسي وفكري وغذائي للأجيال، وتكييفهم للعيش في الظروف الصعبة، والتعايش مع الجوائح والأزمات والحالات الطارئة طويلة الأمد، وبالتالي مستوى المرونة والتكاملية التي يمتلكها التعليم في بناء قدرة المتعلمين والمجتمع نفسيا وفكريا ومهاريا في استيعاب أحداث الجائحة والظروف التي أوجدتها، والحد من الصدمات المتكررة وردات الفعل غير المدروسة التي تؤثر سلبا على حياة الفرد والمجتمع، وترفع من درجة القلق والاضطراب والخوف لديه، وفي الوقت نفسه جملة الممكنات والاستعدادات والمقومات المبتكرة والمستدامة التي يصنعها التعليم ويسهم بها في بناء قدرات المتعلم وأولوياته ويوجه تصرفاته لصالح بناء الذات وصناعة الفارق، وحجم التغيير النوعي والحافز الذي يؤسسه في ثقافة أجيال المرحلة من حيث تأصيل فقه المبادرة وإدارة الموهبة وتعزيز الابتكار والبحث وبراءات الاختراع والريادة لديهم، ورفع مستوى توقعاتهم وطموحاتهم في إعادة إنتاج الواقع وبناء ثقافة وطنية تضع التعليم بوابة انطلاقة للمستقبل.
لقد شكلت جائحة كورونا “كوفيد-19” فرصة ذهبية منطقية لإصلاحات شاملة للتعليم، ستغير وجهه الشاحب، وتعيد رسم ملامح تعليم المستقبل وفق نظرية كورونا، بطريقة أكثر تقنينا ومهنية واحترافية وتكاملية، بحيث تتجه فيها أولويات التعليم إلى بناء جسور تواصل بين التعليم والحياة، وتؤسس للتعليم المنتج عالي المهارة حضوره النوعي في فقه سياسات التعليم، وتنقل التعليم من حالة التكرارية وفاقد العمليات اليومية المتكررة التي جعلت التعليم يدور في حلقة مفرغة، ومسار غير واضح تتجاذبه الأهواء والاجتهادات الداخلية في المنظومة التعليمية ذاتها، وحالة الانبهار الحاصلة نحو بعض الممارسات التعليمية الناجحة في العالم، وتحدد بوصلته الدول التي حققت نتائج متقدمة في الدراسات الدولية؛ غير أن كورنا بنظرياته وأحداثه الواقعية أعاد إنتاج المعادلة، وتصحيح الممارسة، وتوجيه الهدف، وحدد مكامن القوة في التعليم، وجوانب الضعف فيه، ورصد موقع القوة في العالم، من خلال مؤشرات أخرى، تبرز مدى قدرة المجتمعات على التكيف مع هذه الجائحة، وحصانة الوعي المتحققة لها في التعاطي مع الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية والاشتراطات في الحد من انتشار فيروس كورونا، ومدى استيعاب مواطنيها لحجم المعلومات والمعارف المتداولة وقدرتها على الانتقاء والاختيار وامتلاكها فرص التحليل والرد أو التصحيح لما يثار من معلومات وأخبار يغلب عليها طابع الاجتهادية، وبالتالي قدرة الشعوب على إدارة البيانات والمعلومات، والمحافظة على الرصانة الفكرية والمعرفية حاضرة في المجتمع، متجاوزة سلوك الشائعة وإقلاق المواطنين، ثم طبيعة المهارات التي يحتاجها المجتمع وقدرته على توجيه المعلومات والمهارات والقدرات التي تعلمها الطلبة في المدارس والجامعات ونقلها من كونها معلومات مجردة إلى واقع التطبيق، وعبر ما تولده من بدائل وحلول تظهر في تنشيط حركة التطوير والبحث وبراءات الاختراع والاكتشافات والشركات الطلابية والمصانع في توفير المستلزمات الطبية وغيرها، وعدد براءات الاختراع التي سجلتها الدول حول كورونا، وحجم التشغيل الحاصل للشركات المحلية الصغيرة والمتوسطة، بالإضافة إلى المنتوج الفكري الذي يبرز حجم الدراسات والبحوث العلمية والمقالات الرصينة وغيرها التي أنتجتها الدول في هذا الشأن.
وبالتالي باتت هذه المنصات مؤشرات تقييمية حول من هو المتقدم تعليميا في زمن كورونا، ومن صاحب السبق والريادة التعليمية والقوة العلمية في العالم؟، لقد أفصح كورونا بأن القوة اليوم لمن يمتلك ناصية العلم والبحث العلمي والاكتشافات العلمية والاختراعات الطبية، من يجرّب ويبتكر ويخترع وينشر الأبحاث العلمية المحكمة القادرة على صناعة التغيير وإعادة هيكلة الواقع، من استطاع أن يجند مواطنيه ليس في ساحة المعركة التقليدية بل في التعاطي مع أحداث كورونا خلية واحدة في العمل من أجل الحد من انتشاره، من خلال: التقيد الإجراءات والتدابير الوطنية بما تعبر عنه من التزام وتقدير اجتماعي؛ وكذلك عبر فتح آفاق العلم والعمل والإنتاج والتفكير والتطوير على مصراعيه ودعم الباحثين والمخترعين والمنتجين؛ بالإضافة إلى توظيف التقنية للحد من تأثير جائحة كورونا على استدامة التعليم والاقتصاد وحماية الهوية وترسيخ المواطنة وتأصيل القيم العالمية والثوابت مع استشعار المسؤولية الاجتماعية لكل المؤسسات والأفراد والقطاع الخاص.
أخيرا، إن لم يستطع نظامنا التعليمي في ظل معطيات هذه الجائحة أن يرسم صورة المستقبل القادم، ويقف على أرضية صلبة واضحة، وينطلق من مبررات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والصحي والأمني والإنساني الذي فرضه كورونا” كوفيد-19″، فلن يكون قادرا على التعايش مع معطيات المستقبل والتحول الضخم الذي ستشهده منظومة التعليم العالمية، ولن يكون قادرا على تحقيق متطلبات مواطن عُمان المستقبل ويستجيب لتطلعاته الكبيرة وطموحاته المتعاظمة، وسيظل يعيش في حلقة مفرغة، وحالة من التخبط والعشوائية والهدر الذي سيظل ملاحقا له لعقود قادمة، فهل سنصنع من كوفيد-19 خيارًا إستراتيجيًا لإصلاح التعليم؛ أم سيكون حظنا منه ندب الحال ولعن الطبيعة؟، وهل يكفي أن نقلّب صفحات كورونا وفصوله المتعاقبة بدون الوقوف عليها أو تسجيل العبرة منها؛ وكأنها مجرد حالة عابرة وذكرى أحرجتنا في وقتها، دون أن تستثير دوافعنا وتستنهض فينا مسؤولية إعادة تصحيح مسارنا التعليمي وإعادة إنتاجه بلغة جديدة مستوحين من إرثنا الحضاري المتجدد طريقنا للتصحيح ومنهجنا للإصلاح؟