مسقط-أثير
بالتعاون بين الجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم ومكتبة وقف الحمراء الأهلية نُظِّمَت أمس الجمعة (10 رمضان 1442هـ – 23 أبريل 2021م) محاضرة بعنوان: (سورة الغاشية تتحدث من جديد)، للدكتور خالد بن سالم بن حمد السيابي رئيس مجلس إدارة الجمعية.
بدأ المحاضر ببيان أن القرآن الكريم وضح أن الهدف الرئيس من خلق الإنسان هو عبادة الله وحده: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، واتباع هدايته.
وقد أكد القرآن الكريم في أكثر من موضع مكانة القرآن الكريم، ودوره، وأهميته، وأن الهدف من إنزال الله القرآن هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، كما أن في القرآن بركة، وخير، وأن اتباعه سبب الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، وأنه صلاح للقلب، وزكاة للنفس: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرࣰا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرࣲۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورࣱ وَكِتَٰبࣱ مُّبِينࣱ. يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطࣲ﴾ [المائدة: 15 – 16] .
لذلك كان لا بد من الارتباط بالقرآن الكريم: تلاوة، وفهمًا، وتدبرًا، وعملًا، ودعوة. ومن هذه السور التي علينا أن نتدبرها، ونتمعن فيها سورة الغاشية، وليكن دأبنا عندما نتلوها ونتلو غيرها من السور والآيات كأنها تمر علينا أول مرة؛ لنركز في معانيها، ولنستبصر بهداياتها: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ﴾ [محمد: 24]، ولنربطها بواقعنا، ولتزكي أنفسنا، وتقوي إيماننا.
ثم حث بعد ذلك على الاستفادة من أمثال هذه اللقاءات؛ فرب لقاء يغير صاحبه من الانحراف إلى الاستقامة، ومن الغي إلى الرشد، ومن الغواية إلى الهداية: ﴿وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرًا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ [الأحقاف: 29].
كما أكد على ضرورة الإخلاص التام لله في جميع الأعمال، واليقين التام به، وضرورة أن نتوجه إليه -سبحانه- توجهًا كاملًا، وأن نحاول الاستفادة من الحديث قدر المستطاع.
بعدها أوضح أن المحور الرئيس لسورة الغاشية هو بيان مصير أهل النار ومصير أهل الجنة. وتتفرع من هذا المحور العام أربعة محاور:
الأول: جزاء أهل النار، وبعض من عذابهم.
الثاني: جزاء أهل الجنة، وبعض من نعيمهم.
الثالث: الدعوة إلى التفكر في ملكوت السماوات والأرض وما بث فيها.
الرابع: التذكير بكتاب الله العزيز، وضرورة مراجعته، والاهتمام بهذه النفس، وأن منقلبها إلى الله.
ثم استطرد المحاضر في الشرح؛ فذكر أن السورة بدأت بتوجيه الخطاب للرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، وطرح المحاضر تساؤلين: هل الخطاب الذي يوجه للنبي -عليه الصلاة والسلام- خاص به؟ وكذلك: لماذا يسأل الله نبيه عن شيء يعلمه، ويؤمن به؟
فأجاب بأن كل خطاب يوجه للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هو خطاب -أيضًا- لغيره من الناس، إلا ما خصه الله به وحده دون غيره من الناس.
وفيما يتعلق بسؤال الله نبيه عن شيء يعلمه فإن المقصود به: التشويق، وإثارة الاهتمام، والتعريف بعظمة الأمر، وبخطورته؛ فيوم الغاشية يوم عظيم، وينسي الناس أشياء كثيرة كانت معروفة لديهم؛ ولذلك سمي يوم القيامة بيوم الغاشية؛ لأن القيامة تشغل قلوبهم، وتذهل عقولهم عن كل شيء. وضرب مثالًا للتقريب على تأثير بعض الأمور المهمة التي تُلِمُّ بالإنسان؛ فتنسيه ما كان يقصده من أمور: فذكر أنه لو خطط شخص لقضاء مجموعة من المصالح المتعددة خلال مشوار معين، وعزم على استغلال وقته لتحقيق ذلك، ولكنه عندما كان يقود سيارته بسرعة مناسبة التفت التفاتة خفيفة، بعدها تفاجأ برجل يحاول قطع الطريق؛ فحاول تفاديه إلا أنه صدمه؛ فهل يا ترى عندما حدث له هذا الأمر هل سيتذكر ويهتم بما كان يشغله من قبل؟ كلا، بل إن هذا الأمر الذي غشيه أنساه ذلك. فكيف بما يحدث من أهوال عظام يوم القيامة لا يذهل الشخص عن الأمور الأخرى؟!
لذلك قبل أن تأتي الغاشية علينا أن نكون مستعدين، وأن نعد ليوم القيامة العدة التي تتناسب مع هوله وخطورته، وقد جاء في الرواية: (لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أَرْبَعٍ –وفي رواية: عَنْ خَمْسٍ-: عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ، وفيمَ أنفقَهُ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ؟).
ثم بعد ذلك انتقل إلى الحديث عن الآية الثانية من السورة، وبين أنها ذكرت الوجه؛ لأنه يظهر عليه ما كان في القلب؛ فالوجه يطبع ما كان في النفس. ويوم القيامة تكون الوجوه مشرقة مبيضة أو قاتمة مسودة: ﴿يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ. وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [آل عمران: 106 – 107].
ثم ذكر أن ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ تدل على أنها كانت تعمل في هذه الدنيا، لكنها ناصبة تاعبة يوم القيامة؛ لانحرافها عن طريق الحق؛ فهي تعمل بقوة، ولكن تركيزها وانطلاقتها ليست إلى الله، ولا في طريق الإيمان الصحيح.
ثم واصل التعليق على الآيات التي تبين عذاب أهل النار الشديد، وأن شرابهم يكون من عين شديدة الحرارة، وأن طعامهم من أشر الطعام وأخبثه وأنتنه وأبشعه –كما ذكر المفسرون-؛ فهو شديد المرورة، وكثير الشوك، ورغم ذلك فإن هذا الطعام لا فائدة منه؛ فهو لا يسمن، ولا يشبع.
وأكد المحاضر على أن ما يذكره الله من عذاب المقصرين ليس لأجل نشر الذعر والهلع والاضطراب في النفوس، ولكنه للتخويف من العاقبة السيئة، وللتحذير من الوقوع في العذاب.
ثم انتقل إلى الحديث عن الفريق الآخر الموفق؛ الذي هو فريق أهل السعادة، الذين قدموا رضا الله –تعالى- على رضا غيره، واجتهدوا في طريق الخير؛ فهم المؤمنون، العاملون، المتقون، الكيسون، الفطنون، العقلاء حقيقة.
ولهم نصيب وافر من النعيم؛ فوجوههم مسرورة، ناعمة، نضرة؛ وفي ذلك دليل على طمأنينة في القلب، وراحة في الحياة، وسعادة؛ نتيجة ما قدموا، وما أحسنوا؛ ولذلك فالمتقون لا يوجد في قلوبهم خوف يوم القيامة، وإنما الخوف لغيرهم من المقصرين؛ فأول ما يُوَدِّعُ المؤمنون الدنيا تبشرهم الملائكة: ﴿ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [النحل: 32].
وفي يوم القيامة: ﴿لَا يَحۡزُنُهُمُ ٱلۡفَزَعُ ٱلۡأَكۡبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ هَٰذَا يَوۡمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: 103].
وعند دخولهم الجنة: ﴿جَنَّٰتُ عَدۡنٍ يَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَدۡخُلُونَ عَلَيۡهِم مِّن كُلِّ بَابٍ. سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ﴾ [الرعد: 23 – 24].
ولذلك ذكر أنها ﴿لِّسَعۡيِهَا رَاضِيَةٌ﴾؛ فهي مطمئنة؛ لأنها كانت في مسلك رضي، صحيح، ويكون مصيرها: ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾؛ ولذلك فما كابدته من مشقة، وما بذلته من جهد في الحياة الدنيا تطمئن إلى جزائه يوم القيامة؛ فيذهب التعب، ويبقى أثره الطيب؛ ومن ذلك: أنها تعيش سعيدة، مرتاحة، في غرف عالية؛ فمقامها رفيع، وكذلك فإنها ﴿لَّا تَسۡمَعُ فِيهَا لَٰغِيَةً﴾: لا تسمع: ما يزعجها، أو ينغص عيشها، أو يقلقها، بخلاف حال أهل النار –والعياذ بالله-.
ومن النعيم الذي تحصل عليه النفوس المؤمنة: ﴿فِيهَا عَيۡنٌ جَارِيَةٌ﴾: فيها الأنهار، والجريان يخبرك بالتجدد، والسعادة، والتنوع، والتدفق؛ الذي لا رتابة فيه.
كذلك ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَّرۡفُوعَةٌ﴾: ذكر المفسرون: أي عالية، ناعمة، كثيرة الفرش، اللينة، مرتفعة السمك، عليها الحور العين.
كذلك ﴿وَأَكۡوَابٌ مَّوۡضُوعَةٌ﴾: موضوعة بما يستطاب؛ فمنظرها جميل، وطعمها لذيذ لا يقارن.
كذلك ﴿وَنَمَارِقُ مَصۡفُوفَةٌ﴾: فوسائدها لطيفة، جميلة في منظرها، وحسنة عند ملمسها، ومهيأة فوق ما يُتوقع.
كذلك ﴿وَزَرَابِيُّ مَبۡثُوثَةٌ﴾: كما ذكر المفسرون: بسط حسان، مفروشة، كثيرة، مملوءة بها مجالسهم من كل جانب.
ثم انتقل المحاضر بعد ذلك إلى توضيح كيف أن الله قد ربط المحور الثالث ببعض الآيات: آية الإبل المخلوقة في منتهى الإتقان، والإبداع، وتحمل الأثقال، والرموش التي تقيها غبار الصحراء، … وآية السماء المرفوعة، وآية الجبال المنصوبة، وآية الأرض المبسوطة.
ثم طرح المحاضر تساؤلًا: ما العلاقة بين ذكر هذه الآيات بعد ذكر نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار، وما وجه الربط؟
فأجاب: بأن العلماء ذكروا أن إحسان الخلق وإحكامه يقتضي ضرورة العدالة في الجزاء، وعدم مساواة المتقي بالفاجر: ﴿أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ كَٱلۡمُجۡرِمِينَ. مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ﴾ [القلم: 35 – 36]، ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنٗا كَمَن كَانَ فَاسِقٗاۚ لَّا يَسۡتَوُۥنَ. أَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡمَأۡوَىٰ نُزُلَۢا بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ. وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ كُلَّمَآ أَرَادُوٓاْ أَن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمۡ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ. وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَدۡنَىٰ دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ [السجدة: 18 – 21].
ثم بينت السورة في ختامها أننا سنعود إلى الله، ونرجع إليه؛ فعلينا أن نحسن العمل، وأن يكون استعدادنا مناسبًا لذلك اليوم؛ الذي فيه حساب تفصيلي على كل شيء.
ثم فتح باب الحوار، والأسئلة.