أثير- الأديب أحمد بن عبدالله الفلاحي
هذه كلمات أكتبها للذكرى حول شخصية الصديق المرحوم أحمد بن بلال بحار وكتاباته بحسبانه من بين الأوائل الذين حاولوا تجربة الكتابة الحديثة في سلطنة عمان. وسوف أتحدث عن لقاءات قليلة واتصالات متفرقة بين فترة من الزمن وأخرى ومتابعات لما كان يكتبه في الصحافة المحلية ومحاولة استقطاب قلمه للكتابة في مجلتنا مجلة “الغدير” التي كانت صفحاتها ميدانا لأقلام الشاب المبتدئين في تلك الفترة.
في أوائل عام 1979 وكنت وقتها أعمل بالإذاعة وأتذكر أنني رأيته أول مرة حين جاء للإذاعة زائرا أصدقاء له من أبناء مدينته –بركاء– يعملون بالإذاعة وحيث كنا وهم سويا زملاء عمل فقد أتوا به إليّ لنتعارف باعتباره ممن يهوون الكتابة ويسعون للدخول في عتماتها وباعتباري كذلك أحاول التجديف في التيار ذاته، هكذا كان لقاؤنا الأول وقد وجدته شابا دمث الأخلاق شديد التواضع حسن الحديث وقد ذكر لي أنه من هواة القراءة وأنه قرأ للمنفلوطي والرافعي وشيئا من روايات تاريخ الإسلام لجورجي زيدان ومن روايات “أجاثا كريستي” وكتاب “جواهر الأدب” للهاشمي وبعض روايات إحسان عبدالقدوس. وأذكر أنه سألني مسترشدا عما إذا كنت أنصحه بقراءة كتب معينة بذاتها تفيده في زيادة معارفه وفي تطوير محاولاته الكتابية وقد أوصيته بقراءة كتاب “الأيام” لعميد الأدب العربي د. طه حسين وكذلك مجموعات يوسف إدريس القصصية وروايات نجيب محفوظ و”تحفة الأعيان” في التاريخ العماني فرجاني أن أعيره شيئًا منها وخلال تلك الجلسة التي فاض فيها الحديث واسترسل في جوانب مختلفة أحسست أننا غدونا أصدقاء. وبعد فترة اتصل يطلب الكتب التي كنت وعدته بها فاتفقنا على موعد جاء فيه وأخذ مجموعتي يوسف إدريس “آخر الدنيا” و”حادثة شرف” وكتابين أو ثلاثة من كتب جبران خليل جبران و”خان الخليلي” و”دنيا الله” لنجيب محفوظ وكتاب “تحفة الأعيان” وظل الاتصال بيننا يقترب حينا ويبتعد حينا آخر حسب ظروف كل منا ثم اتصل بي ذات مرة ليعلمني أنه قرر الاستجابة لدعوتي للكتابة في مجلة “الغدير” وأن موضوعا في طريقه إلينا عنوانه “الانتظار” وكنت قد قرأت له قبل ذلك بعض كتاباته التي نشرها في جريدة “عمان” ومجلة “العقيدة” وكانت بعض تلك الكتابات تشبه القصة القصيرة أو تأخذ شيئا من صفاتها وبعضها كان إلى حد ما أكثر إحكاما وأكثر اقترابا من فن القصة وقد نشرنا نحن كتابته تلك المعنونة بـ”الانتظار” تحت باب “خاطرة العدد” وكان هذا بابا من أبواب مجلتنا وكان نشرنا له في عدد يونيو 1980م وفي العدد التالي عدد يوليو، وافانا بأخرى وهي في هذه المرة ليست قصة ولا حكاية وإنما مقالة تهاجم أولئك المتسلقين النمامين الذين يتظاهرون بالخير ويبطنون الشر وتمتلئ قلوبهم بالحقد ويتحدثون عن عيوب الناس ويقدحون في أعراضهم وسلوكهم، وفي عدد أغسطس كانت خاطرته بعنوان “الحياة ابتسامة” وهي أشبه بالأقصوصة يلوح التأثر فيها واضحا بكتابات جبران على نحو من الأنحاء وفي هذا العدد ذاته أغسطس 1980م نشرنا مقابلة موجزة معه كان قد أجراها أحد شباب “الغدير” الصغار يومئذ وقد كان طالبا في مدرسة القوات المسلحة التي كان الكاتب مدرسا فيها وفي هذه المقابلة أشار إلى بعض كتاباته وتحدث عن جوانب من حياته وذكر أنه بدأ دراسته الأولية في الكويت ثم في دبي وذهب بعد ذلك مبتعثا من سلطنة عمان إلى السودان لإكمال دراسته في “معهد بخت الرضا” الذي كان متخصصا في تأهيل المعلمين.
وبعد تلك المقابلة وتلك الخاطرة في ذلك العدد من الغدير لشهر أغسطس من 1980م توقف عن الكتابة في الغدير بل وفي الصحافة العمانية الأخرى كذلك دون سبب معروف وفي 1981م صدر كتابه “سور المنايا” الذي كتبت عنه الصحف آنذاك بعد صدوره وقيل عنه بأنه أول مجموعة قصصية عمانية تظهر وليس الأمر كذلك فكتاب الأستاذ محمود الخصيبي “قلب للبيع” كان أسبق. وقد كتب مقدمة كتاب “سور المنايا” صديق المؤلف وزميله في التدريس سعيد بن علي بن سعيد الساعدي الذي أشار إلى أن المؤلف من مواليد بركاء سنة 1951م وأنه زار مصر وسوريا والعراق والهند وباكستان ودول الخليج بالإضافة إلى السودان التي درس فيها وأنه عمل أول ما عمل مدرسا في مدرسة بركاء ثم انتقل عام 1974 إلى مدرسة قوات السلطان المسلحة في غلا.
“سور المنايا” كان كتاب أحمد بن بلال بحار الأول وأذكر الآن أنه جاءني في الإذاعة في صباح ممطر يحمل نسخة من كتابه ذاك ممهورة بإهدائه وكان هذا قبيل انتقالي من “الإذاعة” إلى وزارة التربية بشهرين أو أقل وفي هذه الزيارة دعاني لإلقاء محاضرة في نادي بركاء عن أي موضوع أختاره وكان هو وقتها قد أصبح المشرف الثقافي بإدارة ذلك النادي وقد استجبت لدعوته وذهبت وألقيت المحاضرة المطلوبة وكانت عن النادي ورسالته في المجتمع الحديث، وقد نشرت تلك المحاضرة في “الغدير” فيما بعد ويومها كانت ما تزال توجد بقايا الاعتراضات الخافتة على إنشاء الأندية خاصة في الأماكن المبتعدة عن مسقط تتردد أصداؤها هنا وهناك حيث كان بعض العلماء وكبار الأعيان من شيوخ القبائل يبدون شيئا من التخوف حيال تأسيس الأندية لأنها حسبما تصور في أذهانهم يمكن أن تكون مقرا لإفساد الشباب وصرفهم عن العبادة والدين وحسن القيم والأخلاق وكنا نحاول تلك الأوقات تصحيح هذه الصورة الخاطئة التي يتحدثون عنها ويتأثر بها في أوساط المجتمع ربما قلة من الآباء المسنين غير المدركين، وكان هدفنا إجلاء مفهوم النادي وتوضيح دوره وضرورته لخدمة الشباب بل وكل فئات الناس وكانت هذه المحاضرة ضمن احتفال كبير أقامه نادي بركاء في مارس عام 1981م وكان من بين المدعوين الذين تحدثوا الأستاذ عبدالله بن صخر العامري.
وفي عام 1983م أصدر كتابه الثاني “وأخرجت الأرض ” وفي عام 1987م ظهر كتابه الثالث “لا يا غريب” وقد قدم له الدكتور أحمد درويش وكنت مقدمة متوازنة كعادة الدكتور درويش في كتاباته. ولقد انقطعت الصلة بيني وبين أحمد لسنوات عندما ذهبت للبحرين وطالت إقامتي هناك لما يزيد عن خمسة أعوام كنا نتبادل فيها التحية عبر أصدقاء مشتركين حين لقاء أحد منهم هنا أو هناك وبطاقات التهنئة في بعض الأعياد ثم انقطع التواصل كليا منذ ذهبت إلى القاهرة وقد عشت هناك حوالي أربعة أعوام وحتى عندما عدت أواخر 1993م يبدو أن الحياة أخذت كلا منا في اتجاه وملأتنا بمشاغلها الكثيرة المتشعبة وقادتنا في زحامها اللاهث المصطخب. ولم أشعر إلا وأحد الأصدقاء من مدينة “بركاء” يهاتفني ناعيا إليّ أحمد بن بلال بحار الذي اقتنصه الموت سريعا وذهب إلى غير رجوع فكانت مفاجأة هزتني وأثارت في نفسي كوامن الشجن وأعادتني لذكريات اللقاءات كما هو حال من يأتيه خبر غير متوقع عن موت صديق ربطه الزمن به بوشائج من نوع ما.
أحمد بن بلال بحار كان طيب الأخلاق حسن المعاملة ذو نفس صافية وروح عذبة يسعى للثقافة ويبتغيها وكانت له لغة جميلة ومفردات شيقة حين يكتب، ومعشر لطيف وتعامل مهذب حين يتواصل مع الناس، ومن كلماته الراقية في المقابلة التي نشرتها الغدير معه وأشرت لها قبل قليل قوله “التواضع مذهبي والابتسامة عنواني” وأشهد أن هذه العبارة كانت صادقة الصدق كله في التعبير عن شخصيته كما عرفتها في مرات قليلة.
وأخيرا لا بد من القول في ختام هذه الكلمات اليسيرة أن كاتبنا هذا كان من بين أوائل الشباب الذين حاولوا طرق أبواب الكتابة الجديدة في عمان وكان له في ذلك إسهامه الذي سيظل مذكورا حين يدون تاريخ الكتابة الحديثة في هذا الوطن. فهو اسم وقلم لا يمكن إغفاله وتجاوزه عندما يتم ذكر البدايات والتأسيس ولعله لو استمر به العمر وأمهله الموت لقدم المزيد من الكتابة التي قد تكون أكثر نضجا وملامسة لفنون الأدب ومذاهبه ولكن الإنسان لا ينال من النصيب كبر أو صغر فوق ما تتيحه له هذه الحياة كما هو شأن مسار البشر في أي مكان وأي وقت الكل يأخذ ما خصص له بدون زيادة أو نقصان مهما كان الطموح والابتغاء واتساع الأمل والتطلع للمزيد ولا مزيد على ما حدد من قبل. ويأتي الموت لينهي بضربة صاعقة مباغتة جميع ما خطط له الإنسان. ويمضي الزمن إلى حيث يريد غير مبال بهذا ولا بذاك.