كيف يسهم التعليم في رسم صورة مبتكرة للمشهد الثقافي القادم؟

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

د. رجب بن علي العويسي-
خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة


في ظل معطيات اقتصاد المعرفة الواسع برز المكون الثقافي المجتمعي كعامل داعم للاقتصاد ورافد له، غير أن الوصول به إلى مرحلة الإنتاجية ونقله من الصورة الاستهلاكية، يصنع من التعليم محطة تحول قادمة في صناعة الثقافة وإعادة انتاج المكون الثقافي العماني، ورسم صورة مبتكرة للمشهد الثقافي القادم وفق مدخلات الانتاجية وممكنات المنافسة والتثمير الأمثل في المورد الثقافي المادي وغير المادي على حد سواء.
لقد شكلت العلاقة العضوية التكاملية بين التعليم والثقافة محطة لقراءة البعد الثقافي في بيئات التعليم باعتبارها نواة إنتاج نمط ثقافي متوازن يؤسس لاقتصاد الثقافة الواعد، القائم على وضوح فلسفة العمل وأبجديات التحول واستشراف الصورة المستقبلية للمنتوج الثقافي الذي يحتاجه مجتمع السلطنة، وهي علاقة متجذرة في اصولها إذ لا تصوّر وجود نظام تعليمي عالي الجودة يحقق أولويات التنمية بدون اندماجه في ثقافة المجتمع ومنظومة القيم والمبادئ والاخلاقيات، كما لا يتوقع الوصول إلى منتوج ثقافي فني يتسم بالنضج والتنوع والتفاعل معه من قبل الرأي العام بدون موجهات مفاهيمية وعلمية رصينة ومنهجيات قائمة على الريادة والبحث العلمي والابتكار، إن من شأن هذه المعادلة صناعة نموذج ثقافي متجدد يعكس روح التغيير المطلوبة في الشخصية العمانية وقدرتها على التكيف مع التحولات القادمة مع المحافظة على الثوابت الاصيلة والقيم الراقية، والاستثمار في موارد مجتمعه المادية وغير المادية، في مواجهة نزغات الذات وانانية التصرف وفوقية التعامل وفردانية القرار، لتؤسس فيه مفاهيم المشاركة والتعاون والتكامل ووحدة الجهود وتقاسم المسؤوليات – ممكنات تحقيق رؤية عمان المستقبل.
وبالتالي كيف يمكن أن تصنع جهود المدارس والجامعات من حركة الثقافة وفنونها فرصة لتوليد البدائل والتثمير في المنتوج الثقافي المتحقق ؟، إن تحقق ذلك مرهون بجملة من الموجهات تبدأ بالخيارات التي يعتمدها التعليم في المحافظة على الثقافة وصون التراث الثقافي المادي وغير المادي وحماية الهوية الثقافية الوطنية في فقه النشء وقناعاته وثوابته من أي تدخلات تعصف بها أو تؤثر على محتواها أو تقلل من اثرها في تشكيل شخصية النشء وحاجته إليها في عالم التقنية المتسارع، وبالتالي دور التعليم في تقوية الرصيد الثقافي الوطني وعبر توجيه الطلبة نحو ترقية الفكر الثقافي وتعزيز حضور الفنون والأشكال الثقافية والفنية والجمالية والذوقية والوطنية في حياة الطالب، وتعزيز انتاج المكون الثقافي في بيئة التعليم والتعلم في الصف الدراسي والقاعات التدريسية في إطار من التجريب والممارسة والتصحيح والتقييم والتحليل، ليصنع منها حراكا ثقافيا يظهر في جملة التعابير الثقافية والأنشطة الطلابية الممارسة في بيئة التعليم.
كما يقودنا ذلك إلى مهنية التعاطي مع الأنشطة ذاتها والتنوع فيها وإيجاد المحترفين الذين يقدمون الثقافة في روح متجددة وأطر أخلاقية، بحيث يمثل المنتوج الثقافي عائدا اقتصاديا للتعليم والمدارس والجامعات مستفيدة من التقنيات الحديثة في ابرازها واتساع تداولها والتسويق لها في، لتصبح محطة استراحة للمجتمع، ومساحة تعليمية يجد خلالها الطلبة فرصتهم في التعيير عن مواهبهم والفرص الموجودة فيهم، ليتم الحديث عن المسرح التعليمي و والشراكات الطلابية في نقل هذا الإرث الحضاري المعبر عنه بالمسرح والقصة والرواية والامسيات الشعرية واللقاءات الثقافية والمعارض والمبادرات وغيرها إلى العالم الآخر بما يضمن توجيه هذه الثقافة لخدمة المجتمع في صورة واقعية مهذبة معبرة عن طموحاتهم وتوقعاتهم.
إنّ ما تصنعه الشعوب والمجتمعات للمكون الثقافي من أهمية في استراتيجيتها التنموية ورؤيتها الوطنية، إنما هو نتاج لدور الثقافة في خلق روح التغيير الاجتماعي وإعادة هندسة العمليات الداخلية في المجتمع، وهي بذلك محطة التقاء للأفكار والتعايش معها، الامر الذي سيولد الكثير من الفرص على نطاق مؤسسات التعليم او غيرها، ناهيك عن أن المكون الثقافي اليوم اصبح محطة تسويقية مهمة في تعزيز الاقتصاد والتنويع الاقتصادي وجذب السياحة والاستثمارات وتشجيع الشعوب على التفاعل الثقافي والحوار الحضاري ، هذا الأمر يصنع من الثقافة اليوم محطة عبور عالمية وجسر تواصل انساني، وعندما تبدأ جذورها من التعليم وتنمو في مؤسساته، ويجنّد لها النشء الشغوف والطموح، وتتفاعل معها عناصر التعليم وفق موجهات واضحة، وأدوات صحيحة، وآليات مجربة، ومناهج علمية رصينة، وبرامج محكمة في ممارسة النشاط الثقافي داخل المدارس والجامعات، وتقوية وجود المجتمعات الثقافية في مختلف مجالات التعبير الثقافي والتصاقها بالواقع وتجسيدها لأحداثه، عندها سوف يقدم التعليم للثقافة العمانية نموذجا ثقافيا متفردا يستوعب الواقع، ويتفاعل مع محطات التجديد المطلوبة في المسرح والدراما والتمثيل والمونتاج وغيرها، وعندها يصبح المنتوج الثقافي والفني أكثر اقترابا من الواقع، والتصاقا به، وتعبيرا عن هموم الناس وأحلامهم وظروفهم ومواقفهم ومعاناتهم ، لتظهر عبر شاشات التلفزة في اصدق حال، وأنضج فكر، واسمى فكره، وأجمل سناريو، وأعظم قضية.
إنّنا نجدد الدعوة إلى التعليم في أن يلعب دورا استراتيجيا في إعادة انتاج المشهد الثقافي الوطني وإزالة هاجس الضبابية التي ما زالت ترافق هذا المشهد، ووضع السياسات التعليمية الموجهة نحو الثقافة أمام فهم معمق للبعد الثقافي في التعليم وعلاقته بغايات التنمية الوطنية وتحقيق رؤية عمان 2040 ، وهو ما يظهر في محور الانسان والمجتمع، ودور التعليم في تعزيز الهوية الوطنية العمانية يأتي في إطار استيعاب النشء للمكون الثقافي والتحولات الحاصلة في المشهد الثقافي العالم، وبالتالي تكوين شعور داخلي بالقيمة المضافة لهذا الإرث الثقافي المتنوع ، من خلال دور الشباب في تنشطي حركة الثقافة العمانية وتطويرها المعززة بروح الشباب والموجهة بمعايير الخُلُق والذوق، والقادرة على تغيير بعض الافكار المغلوطة حول مفهوم الثقافة وأهمية الأنشطة الثقافية في المدارس في كونها مساحة للترويح فحسب، أو ما يشير إليه البعض من تأثيرها على منظومة القيم والاخلاق، أو استبدال الأنشطة الثقافية بأخرى ذات جدوى في نظرهم، أو أن يقرأ البعض في ممارسات هذه العادات والتعابير الثقافية مساحة للهدر والفاقد التعليمي وتضيع وقت الطلبة أو غيرها مما يعبر عن فجوة في فهم الثقافة ذاتها وجوهر عملها .




أخيرا تبقى قدرة بيئات التعليم والتعلم في استلهام معاني الابتكارية والتجديد والاحترافية والمهنية في المكون الثقافي الواسع عامة والأنشطة الثقافية بمؤسسات التعليم مرهونة بحجم التغيير الذي تشهده الممارسة الثقافية في المدارس والجامعات، والبدائل التي تطرحها، والنماذج الثقافية التي تبتكرها والصورة الذهنية التي تنقلها للآخر، بحيث تبرز فيها في طرحها الكلمة المنطوقة والعبارة المسترسلة إلى الآلية والطريقة والمنهجية، بحيث يعبر الحضور الثقافي للممارسين التعليميين عن قيمة حضارية للأمة العمانية واقتصاد الثقاف، تتجاوز حدود التطبيل والتصفيق والغناء والرقص إلى تبني روح التراث وجوهر الثقافة في النفس، والقناعة به كمدخل للتغيير في العادات اليومية ، وانتاجها في إطار سلوك وطني يقوم على اتقانه المخلصون والمبدعون والمتميزون والمتفوقون من أبناء الوطن، فهو بذلك فرصة لتقييم التراث ومراجعته وإعادة تهذيبه وصقله في إطار تنوع الثقافات واتساع أفق المنجز الثقافي العالمي.

Your Page Title