د. رجب بن علي العويسي -خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
مع اليقين بأهمية ما تحقق للتعليم في مسار إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة في عام 2020م، في ظل ما تستهدفه من تكامل الجهود وتقاسم المسؤوليات وتفاعل الأطر والحد من الازدواجية في العمل وتنازع الاختصاصات، وضمان الاستفادة المثلى من فرص الاهتمام بهذا القطاع الحيوي في منظومة الاقتصاد الوطني؛ إلا أنها خطوات غير نهائية، وليست كافية لتحقيق الطموح المرتقب من قطاع التعليم – بوابة عمان المستقبل- الذي يمثل أكبر القطاعات المعوّل عليها استيعاب وانتاج الموارد البشرية، والرهان الوطني لتحقيق نجاحات واسعة في مختلف المنظومات المجتمعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والاستثمارية، إن لم يرتبط الجهد التعليمي بممكّنات واضحة، واستراتيجيات أداء مقننه، ومراجعات شاملة متكاملة لكل تفاصيله، وتحولات تمارسها مؤسسات التعليم على مستوى الأداء والجاهزية والبنية التعليمية ذاتها، وعندها يصبح إسقاط الهيكلة على نظام التعليم مرحلة متقدمة لتهيئة النظام التعليمي، وتمكين القائمين عليه والمنفذين لسياساته وخططه وبرامجه من التفاعل المنهجي مع التحولات الحاصلة فيه، وعبر التوظيف المناسب لما يدور في فلك المعرفة الكونية من نظريات التعليم والتعلم، والتجارب والخبرات والنماذج، وأفضل الممارسات التعليمية الدولية في كفاءة التعليم وجودة مخرجاته، في ظل استشعار بأهمية ارتباطه بالمنظومة الاقتصادية والتحولات الحاصلة في الإدارة وسوق العمل الوطني والعالمي.
وبالتالي ما يعنيه ذلك من أن إعادة هيكلة نظام التعليم يجب أن تتحول من شعارات إلى ممارسات تظهر في التزام مداخل التغيير النوعي، والأداء المتوازن، والتحسين المستمر، وهندسة العمليات الداخلية فيه بما يتناغم مع الطموحات الوطنية المتعاظمة، متخذا من المستجدات العالمية التي فرضتها جائحة كورونا ( كوفيد19) الطريق لنسج خيوط الهيكلة ورسم ملامحها وتحديد معالمها وتجسيد أولوياتها ، والوقوف على التحديات والمتغيرات التي رافقت الجائحة وتأثيرها على التعليم، مع المحافظة على جملة المكاسب والفرص التي أعطت صورة متكاملة حول نوع التعليم الذي تريده أجيال عمان الحاضرة والمستقبلية، ذلك أن تحقيق نتائج ملموسة على المدى البعيد من إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة يستدعي مراجعة جادة ومقنعة لكل الإخفاقات التي ارتبطت بالسلوك التعليمي أو المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وغيرها التي أظهرت تراجعا في دور التعليم في اثبات كفاءته وقدرته وبصمة حضوره في فقه النشء وثقافة مخرجات التعليم وقدرتها على التكيف مع ظروف الواقع الاجتماعي وإدارة التراكمات والأزمات، واستيعابه لطبيعة التحولات في المجتمع العماني خاصة ما يتعلق منها بدور التعليم في استنهاض المواطنة والقيم والهوية، وبناء اقتصاد السلطنة الواعد في ظل جملة المهارات والممكنات والتخصصات التي يجب أن تتعاطى معها مؤسسات التعليم بجدية من خلال تعزيز الابتكار والبحث العلمي وريادة الاعمال وإنتاج وظائف المستقبل وصناعة المواطن العالمي، وتأصيل مفهوم أعمق للإنتاجية في إطار التثمير في المشاريع القائمة على الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة.
من هنا كانت الآمال المجتمعية عامة وطموحات مجتمع التعليم والطلبة وأولياء الأمور ومؤسسات الاقتصاد وقطاعات الإنتاج خاصة تتجه فور البدء بتنفيذ مقتضيات إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة إلى حراك وطني يقف على مستجدات الواقع التعليمي والطموحات والأولويات والتوجهات الوطنية، بعد أن تبلورت التجربة، واكتملت البنية التنظيمية والهيكلية والتشريعية للمؤسسات التعليمية من خلال مُراجعات مؤطرة وأدوات مقننة وآليات مدروسة يشرف عليها فريق عمل وطني متخصص يعمل باستقلالية تامة ومهنية عالية وشراكة استراتيجية مع كل الفاعلين والمؤثرين والشركاء في المنظومة، مع الاستفادة من التجارب وبيوت الخبرة الدولية والتجارب والإقليمية، وأفضل الممارسات التعليمية حول العالم في ظل معايير التنافسية ومؤشرات جودة التعليم، بحيث يتجه العمل فيها إلى محاور متعددة، تبدأ بمراجعة تأخذ في الحسبان فلسفة التعليم واختصاصات مؤسساته في ظل الهيكلة الجديدة وادواته وآليات بنائه ، والعلاقة التكاملية والاستراتيجية بين مؤسساته.
ومع تعدد المبررات وتكامل المسوغات حول ضرورة إعادة هيكلة التعليم بما يتفق مع توجهات المستقبل ويعيد انتاج الواقع في ظل معطياته وما تفرضه الأحداث الدولية والإقليمية من مواقف، وهي مبررات تتجاوز في شرح تفاصيله واتساعها وعمقها مقالات بل مدونات إلا أن التأكيد اليوم على البعد الاقتصادي والاجتماعي للتعليم الخيار الذي يجب أن تقف عليه مسارات إعادة الهيكلة تجسيدا لأولويات رؤية عمان 2040 ، واضعة الحلول والبدائل النوعية في معالجة التحديات الناتجة عن فراغ الضوابط وأزمة الثقة وفردية القرار وسلطوية التنفيذ، بحيث تتجه أعمال الهيكلة إلى الداخل التعليمي وبنية التعليم، في مناهج التعليم وفلسفة العمل وزمن التعلم والأنشطة والبرامج والخطة الدراسية والمحتوى التعليمي وسلوك القائمين على التعليم وصلاحيات المؤسسات التعليمية والأكاديمية من مدارس ومعاهد وكليات وجامعات والحوافز، وقانون الهيئات الإدارية والتعليمية والأكاديمية ، والقوانين المنظمة لجودة الحياة في بيئة التعليم، ومنظومة تقييم الطلبة، وإدارة المواهب، والاستثمار في الكادر التعليمي والخبرات، وإعادة رسم ملامح المهارات الناعمة في ميدان التعليم ومخرجاته، وتعظيم حضور البحث العلمي والابتكار وريادة الأعمال وإدارة المشروعات الاحتراقية للطلبة والملكية الفكرية والاختراع في مؤسسات التعليم والحقوق والواجبات، وتدريب الطلبة في مؤسسات القطاع الخاص والشركات، بالإضافة إلى التنويع في مسارات التعليم والإسراع تجسيدا للتوجيهات السامية لجلالة السلطان بــ ” الاسراع في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحليل الاحتياجات والمتطلبات الضرورية لتطبيق التعليم التقني والمهني في التعليم ما بعد الأساسي بما يتوافق مع متطلبات سوق العمل واحتياجاته المستقبلية، وأهمية تبني منهجية متكاملة لآلية تطبيق ذلك وتحديد الخبرات والموارد البشرية اللازمة في هذا الشأن” وما يرتبط بذلك من ضبط سياساته وتقنين مساراته والتنويع فيها ، وإعادة ترتيب أولوياته من التخصصات الأكاديمية بما يواءم احتياجات سوق العمل، وتوفير النماذج والبرامج المناسبة في مراقبة التطورات الحاصلة في سوق العمل والاحتياجات الوطنية المستقبلية من التخصصات، للوقوف على طبيعتها ونوع الطلب على الكفاءة الوطنية والتخصصات، والتعاطي منها في ظل تشريعات مرنة وأنظمة حوافز مناسبة، وثقافة عمل تعظم من معايير الابداع والتجديد والابتكار، وتمكين الجامعات ذاتيا من تطوير برامجها التدريسية والتدريبية وتطويعها لتنسجم مخرجاتها مع احتياجات سوق العمل المتجددة والتخصصات العلمية والتقنية والفنية والمهارات الناعمة، ونوع الوظائف التي قد لا تتوافق مع طبيعة المستقبل، أخذة في الاعتبار التخصصات ذات القيمة المضافة والأكثر تحقيقا لرؤية عمان 2040 ، مع فتح المجال لإشراك القطاع الخاص في عمليات تأليف المناهج والاستثمار في البعد المكاني للمؤسسات التعليمية.
أخيرا تبقى إعادة هيكلة التعليم مرهونة بمستوى الإرادة النافذة في القائمين على مؤسسات التعليم في تحقيق التزام جاد، يحمل هاجس قوافل الخريجين المنتظرة، وأعداد الباحثين عن عمل والمسرحين المنتشرة على الشوارع لبيع ما تسد به حاجتها والتزاماتها الأسرية تحت لهيب الشمس الحارق ، إرادة تفتح نوافذ الامل بقادم أجمل، يزيل عن شباب هذا الوطن الواعد هاجس القلق والخوف من المستقبل وأزمة الثقة وحالة التشاؤم التي باتت تسيطر على فكره على مقاعد الدراسة وهو يرى مخرجات الجامعات ومؤسسات التعليم الأخرى؛ باحثة عن عمل، عاطلة بلا صنعة، هامدة بلا مهارة، خاملة بلا مشروع مستديم، يصنع لها حياة كريمة وعيش محترم.