د. رجب بن علي العويسي
– خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
ثقافة التطوع تعبير عن أفضل السمات والخصائص التي يحملها مجتمع ما، ودليل على مستوى النضج الفكري والممارسة القيمية والأخلاقية التي يتمتع بها مواطنيه ويمنحونها للأخر المختلف، وأينما وجدت ثقافة التطوع وجدت المواطنة، لأنها ببساطة صورة مصغرة للوطن الكبير، تعكس مستوى التناغم بين هياكله ومكوناته، وحركة التعايش بين منظوماته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية، ومماسة مجتمعية أصيلة تعبّر عن إنسانية المجتمع ، وتكاتف افراده، وتعاون كياناته في مواجهة الشدائد والمحن، والتحديات والصعوبات، بحيث يقف فيه الجميع على مسار واحد لصناعة الفارق وإنتاج الحلول، إنه أصدق تعبير عن سمو النفس، وصفاء القلب في مواجهة حالة الفردانية والأنانية وسلطوية الذات، يتنازل خلاله الفرد عن رغباته الشخصية ليصنع منها مددا للأخر فتنصهر مع أولويات المجتمع، يقوّى من سواعد العطاء، ويؤسس لمنهجيات البر والإحسان، ويبني فرص أكبر لإدارة المشاعر النبيلة التي تقرأ الوطن في تكاتفه وتعاونه ووحدته ولحمته الاجتماعية، لتتجه في إخلاص ورغبة واختيار إلى أولويات الوطن، أنموذج للحياة في أصدق تعبيراتها، وأنضج معانيها وأنصع بياضها، واصفى معدنها، لصياغة الذات، وتجديد الممارسات، وتنشيط الوعي، وتقييم السلوك، وتأصيل وازع الضمير والخلق الحسن، وانتزاع الذاتية والتعالي على صيحات الأنا، ليثبت خلاله المواطن مصداقيته في الوفاء بالتزاماته، وتأكيد مبدا الايثار في مواجهة سلوك الأثرة ونزعة الذات، وتقدير قيمة الالتزام الجمعي بالمعايير والأسس، والضوابط الذي تنقل الفرد من ذاتية المصالح وسلطوية التفكير والبحث عن الذاتية إلى صناعة انسان منتج فاعل مناضل من أجل الآخرين وتحقيق سعادتهم، فيتخلى عن فوقيته ورعونة تصرفه لينصهر في المجتمع قلبا وقالبا، وينزل من أبراج السلطة ليشارك المجتمع أهداف وطنه وغاياته السامية ومبادراته التطوعية الجادة.
والحديث عن دور التعليم في تأصيل ثقافة التطوع نابع من دوره في تعزيز الهوية والقيم وتنشيط حركة التفاعل والعمل الاجتماعي، والتي تمثل ثقافة التطوع جزءا اصيلا منها، فهو المجال الحقيقي لترسيخ القيم الأخلاقية والمبادئ السامية والمثل العليا وقيم المواطنة والحقوق والواجبات وممارسة التطوع حياة أصيلة متجددة ، والبيئة الأهم في تشكيله وصناعته ورسم معالمه وإخراجه إخراجاً حسناً وإنباته في بيئة المدرسة وحرم الجامعة ، ولذلك كانت قدرة التعليم على بناء هذه الثقافة وتأطير هذا السلوك في حياة المجتمع منذ نعومة أظافره وفي محاضن التربية ومؤسسات التعليم والمؤسسات الثقافية والمجتمعية والصحية والعمل الاجتماعي، وعبر تأصيل ثقافة العمل التطوعي ومهاراته باعتبارها أحد مكونات البرنامج التعليمي والأكاديمي في مؤسسات التعليم العالي ، وجعل ثقافة التطوع وإدارة العمل التطوعي أحد أهم المهارات الناعمة لمخرجات العمل الاجتماعي وتخصصات العلوم الاجتماعية في الجامعات وأحد مهارات القرن التي يتم تزويد مخرجات التعليم المدرسي بها، الأمر الذي يسهم بدوره في تشجيعه وتعزيزه وتمكينه في فكر المواطن وقناعاته، وبناء هذه الثقافة والتجديد فيها وتوليدها بصورة متكررة وبشكل مبتكر، مسارات أكثر عمقا تتجه نحو تأطيره في مناهج التعليم وأساليب التعلم وأنماط التدريس وثقافة المؤسسات التعليمية وفكر الممارسين التعليميين والبرامج التوعوية والاعلامية التعليمية والتثقيفية والتدريبية وأنشطة المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية الأخرى، وتعريض النشء لنماذج عملية في فقه التطوع وأساليب محاكاة للواقع من خلال تجسيد تفاصيله وانواعه في بيئات التعليم والتعلم ، بحيث يحقق الطفل هذه الثقافة ويلتزم بهذا السلوك باعتباره قيمه مضافة متجددة في حياته وتلتصق بمكونه الإنساني.
على أن تشعب العمل التطوعي واتساع نطاقه وتعدد مواقفه وتنوع مجالاته وتزايد متطلباته يستدعي البحث عن آليات تعمق حضوره في كل مقتضيات العمل الوطني ومكوناته ومنصاته ، ويصبح العمل على كما يصبح وضع موجهات عامة ومحددات دقيقة في عملية تدريسه، وطريقة تناوله ونقله إلى محاكاة الواقع، وترقية النماذج التي تحققه، أولوية وطنية تضاف إلى رصيد الإنجازات التي حققها العمل التطوعي في مسيرة التنمية الوطنية. يؤسس لمرحلة متقدمة من الجهد الوطني الموجه نحو إدارة العمل التطوعي وحوكمته وتعزيز حضور التشريعات والقوانين والأنظمة واللوائح والإجراءات والاليات ونظم التقييم والمتابعة والتطوير إنما يستهدف حماية العمل التطوعي وصونه وتهذيبه وتحسينه وابعاده عن أي ممارسات قد تشوه صورته أو توجهات فردية قد تضع الضبابية على وجه الاشراقة فيه، في ظل ما قد يدخل النفس فيه من سلبية الشعور والتعدي على الأمانات لتعبر ثقافة التطوع عن أفضل درجات السمو الفكري التي يمارسها الفرد في مجتمعه لذلك كانت الحاجة ‘إلى تكاتف الجهود الوطنية في ترسيخ هذه الثقافة وتأطيرها وتعزيز حضورها باعتبارها استراتيجية حياة لا ترتبط بالظروف والاحداث والجوائح والحالات الطارئة أو بالشداد والكوارث بقدر ارتباطها بإنسانية الانسان ومبادئه وأخلاقه وقيمه وتعبر عن روح النضال التي يؤمن بها نحو الآخرين وخدمتهم كجزء من هذه المنظومة الكونية، وهنا يبرز دور التعليم في استنطاق هذه المبادئ الإنسانية وتشجيع حضورها ونقلها من الوقتية إلى الاستدامة وتأطيرها في ظل استشعار لحجم المسؤولية التي تقدمها، وعندها تصبح ثقافة التطوع أكبر من مجرد اتفاق مجتمعي على مساعدة الآخرين والوقوف معهم وتقديم يد العون لهم والمشاركة في خدمتهم وبلوغ الأمان والأمل فيهم بل شعور ذاتي بأن حياة المجتمعات وتقدمها وتطورها ونهضتها ومواطنتها لا تتحقق إلا بحضور مسار التطوعي في مكونات المجتمع وتفاصيله ،.
وعودا على بدء؛ تمثل ثقافة التطوع في الحالة العمانية سلوكا مجتمعيا أصيلا وجزءا من نسيج المجتمع، في ظلال المبادئ والأخلاق والثقافة، والأصالة والهوية ، والمشترك القيمي والمؤتلف الإنساني وجسدتها قيم التعايش والتسامح والوئام والروح الإنسانية التي تعاملها بها العمانيون مع قضايا الإنسان في كل زمان ومكان” کیانا حضاريا فاعلا ، ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها ، واستتباب الأمن والسلام فيها ” ، والتي أنتجت نماذج عملية رائدة في التطوع، وسجل العمانيون في تاريخهم الحضاري الحافل بالمواقف والبطولات التاريخية مآثر خالدة ، ونماذج مشرّفة، وشواهد إثبات في العمل التطوعي الأصيل، عززت من مبادئ اللحمة المجتمعية والشراكة المؤسسية والولاء والطاعة لجلالة السلطان والحب والانتماء لعمان، ودخول المواطن في حلبة العمل وميدان العطاء، لتجسد الحالات المدارية الطارئة التي مرت على عمان ومنها إعصار شاهين وغيرها من المواقف والأزمات التي اخترت هويتهم وأبرزت معالم التمّيز والقوة فيهم، وتبقى المحافظة على استدامة هذه المكاسب وتعزيز حضورها المستمر في كيانات المجتمع ومكوناته مرهونة بحوكمة هذا المسار وتنظيمه وضبطه وتقنينه وبناء سياسات عمله لضمان استدامته وتجدده وتكيفه مع الواقع واحتوائه للشباب العماني الداخلين فيه.
