خاص- أثير
كاتب المقال: المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي
نشر المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي خلال الفترة الماضية مجموعة من المقالات بصورة حصرية في “أثير”، ونعيد نشرها للقارئ الكريم.
تقديم وترجمة: جورج طرابيشي
كثيراً ما اُتهم التحليل النفسي بأنه اختراع يهودي، بله مؤامرة صهيونية، لا بحكم الأصل اليهودي لفرويد فحسب، بل كذلك لأن فريق العمل الذي التفّ حول فرويد وانتصر لنظرياته كان يتألف من غالبية عظمى من الأطباء والمحللين النفسيين من ذوي الأصول اليهودية رجالاً ونساء، وتحديداً في الدولتين اللتين كانتا تضمان ((الجالية)) اليهودية الأكثر تعداداً والأكثر فاعلية في
العالم يومئذ: الأمبراطوريتين الألمانية والنمساوية.
من رسالة لفرويد إلى ن. ن(1)…
فيينا 14/12/1937
سيدتي العزيزة
يتعيَّن عليّ أن أضيف بضع كلمات إلى تشكري لك على إرسالك كتابك الثمين الصغير إليَّ، وما ذلك فقط لأن التحليل النفسي يحظى بتقديرك ولأنك توردين اسمي في عدة مواضع بطريقة مستحبة، بل على الأخص لأن كتابك يتضمن أموراً كثيرة لا يجد القارئ اليهودي أمامه مناصاً من أن يقرّ بأهميتها وصحّتها.
لقد شرعتُ منذ بضع سنوات بالتساؤل كيف اكتسب اليهود الطابع الخاص الذي صار هو طابعهم، وكعادتي رجعت إلى الأصول الأولى المبكرة. ولم أجد في نفسي حاجة إلى أن أطيل النظر. فقد فجأني أن أكتشف أن التجربة الأولى، التجربة الجنينية إن جاز التعبير لذلك الشعب، أي تأثير الرجل موسى والنزوح عن مصر، قد حددت تطوره اللاحق بتمامه إلى يومنا هذا ــ شأنها شأن الرضّة الفعلية العائدة إلى الطفولة الأولى في تاريخ الفرد العصابي. فهناك، بادئ ذي بدء، التصور الزمني للحياة، ومعه تجاوز الفكر السحري ورفض الروحانيات، وهما قسَمتان تعودان ولا بدّ إلى موسى نفسه، وربما إلى ما قبله أيضاً، ولكن بدون أن يتوفر لنا بصدد ذلك اليقينُ المرجوّ. وقد نشرت مجلة إيماغو دراستين في هذه السنة تنطويان على جزء على الأقل من النتائج التي توصلتُ إليها، بينما توجَّب عليَّ أن أحتفظ لنفسي بالأجزاء الأخرى(2). ولسوف يسعدني أن تطَّلعي على هاتين الدراستين.
تحياتي الودية
المخلص لك فرويد
1 ـ ن.ن هي كاتبة وأم أمريكية تعمّد فرويد أن يبقي اسمها مجهولاً لأنها كانت كتبت إليه في مراسلات دارت بينهما منذ عام 1935 تستشيره بخصوص ابنها الذي كانت تشتبه بأن له ميولاً جنسية مثلية.((م)).
2 ـ كان فرويد نشر الفصلين الأول والثاني من كتابه الرجل موسى والتوحيد في العددين 1 و3 من المجلد 23 عام1937 من مجلة إيماغو، بينما أخَّر نشر الباقي إلى شهر آذار/مارس 1938.((م)).
من رسالة إلى ماكس آيتنغتون(1)
في 6 شباط/فبراير 1938
…هل قرأت أنه سيحظر على يهود ألمانيا أن يسمّوا أولادهم بأسماء يهودية؟ إنهم لن يستطيعوا في هذه الحال أن يأخذوا بثأرهم إلا إذا طالبوا النازيين بالامتناع عن أن يطلقوا على أولادهم أسماء من قبيل يوحنا ويوسف ومريم.
1 ـ ماكس آيتنغتون: طبيب ومحلل نفسي روسي الأصل(1881 ـ 1943). تولى فرويد نفسه تحليله ، وصار مساعداً لكارل غوستاف يونغ، وترأس الرابطة التحليلية النفسية الدولية عام 1933 خلفاً لكارل أبراهام. هرب بعد ذلك من النازية الصاعدة إلى فلسطين حيث أنشأ الجمعية التحليلية النفسية الفلسطينية ومات في القدس.((م)).
رسالة إلى تشارلز سنجر(1)
31/10/1938
سيدي الموقر
إن الدافع إلى المراسلة بيننا لا يخلو من إشكال. فكتابي الصغير هو الآن قيد الطباعة وسيصدر في الربيع القادم تحت عنوان موسى والتوحيد. وهو يحتوي على بحث مبني على أساس فرضيات تحليلية نفسية بخصوص أصل الأديان، وبصفة خاصة الديانة التوحيدية اليهودية، وهو بمثابة تتمة وتطوير لنصّ آخر كنت نشرته قبل خمسة وعشرين عاماً بعنوان الطوطم والتابو. فالمرء إذا شاخ لا يعود يهتدي إلى أفكار جديدة، فلا يبقى أمامه غير أن يكرر نفسه.
لا يمكن القول عن الكتاب المشار إليه إنه يهاجم الدين إلا بقدر ما أن التمحيص العلمي لأي ضرب من ضروب الإيمان الديني يفترض مسبقاً عدم الإيمان. ولست أخفي، سواء أفي حياتي الخاصة أم في كتاباتي، واقع كوني غير مؤمن جوهراً وأساساً. ومن ينظر إلى كتابي من وجهة النظر هذه فلن يكون أمامه ـ والحق يقال ـ مناص من التسليم بأن اليهود حصراً، وليس المسيحيين، هم من يحقّ لهم أن يشعروا بأنهم متأذّون مما خلص إليه كتابي من استنتاجات. ذلك أني لا أستهدف المسيحية إلا بعدد ضئيل من الملاحظات الفرعية التي لا تنطوي على شيء لم يسبق قوله منذ زمن بعيد. ولكن في وسع المرء، على كل حال، أن يستشهد بالقول السائر القديم: ((اعتقلا معاً، فشنقا معاً)).
وبديهي أيضاً أني لا أحرص على إهانة من ينتمي من الناس إلى جنسي، ولكن هل باليد من حيلة؟ لقد أمضيت حياتي المديدة كلها وأنا أحامي عما كنت أعتبره هو الحقيقة العلمية، حتى عندما يكون في الأمر مبعث على الحرج والكراهة بالنسبة إلى بني جلدتي. ولست مستطيعاً أن أختمها بفعلِ تنكّرٍ وجحدٍ. ورسالتك إليّ تنطوي على ملاحظة تشهد على تفوّق فكرك: ألا هي توكيدك بأن كل ما سأكتبه سيثير ضروباً من سوء الفهم. وهل لي أن أضيف: ومن الاستنكار؟ والحال أن ما نلام عليه نحن اليهود هو أننا صرنا بمرّ العصور جبناء (بعد أن كنا أمة مقدامة). ولست أنا بشريك في هذا التراجع. ومن ثم لا مناص لي من أن أركب مركب المجازفة.
المخلص لك وبكل الاحترام
فرويد
(1) تشارلز سنجر: مؤرخ بريطاني للعلوم والطب(1876 ـ 1960). من مؤلفاته: من السحر إلى العلم.((م)).
رسالة إلى إسرائيل كوهين
(نشرت رسالة فرويد هذه لأول مرة بالإنكليزية في مجلة الرقيب اليهودي والشرق الأوسط في عدد 4 حزيران/يونيو1954. وكان إسرائيل كوهين ـ الصحفي والزعيم الصهيوني الإنكليزي البولوني الأصل(1879 ـ 1961) ـ يشغل في حينه منصب الأمين العام لـ((المنظمة الصهيونية العالمية)). ولما كانت مؤسسة ((الصندوق التأسيسي)) قد نظَّمت في حينه حملة لمساعدة اليهود المنفيين من ألمانيا النازية، فقد وجَّه إسرائيل كوهين طلباً إلى فرويد ليوجّه بدوره نداء للدعم والمؤازرة. ولم يتمّ العثور على النص الألماني الأصلي لرسالة فرويد الجوابية التي ننشر ترجمتها أدناه إلا في عام 1987):
سيدي المحترم،
علاوة على شكري لترحابك بوصولي إلى إنكلترا أضيف هذا الرجاء: أرجوك ألا تعاملني كـ ((زعيم في إسرائيل)) وأحبِّذ ألا يُنظر إليّ إلا على أني عالم متواضع، وألا أوصف بغير ذلك. ومع أني يهودي صالح ما أنكر قط يهوديته، لا يسعني مع ذلك ألا أدرك أن موقفي السلبي تجاه كل دين، بما فيه الدين اليهودي، يبعدني عن غالبية صحابتي ويجعلني لا أصلح للدور الذي بودّك ترشيحي له.
المخلص لك
فرويد
اللاسامية في إنكلترا
لندن في 16/11/1938
إلى محرر التايم والتايد(1)
قدمتُ إلى فيينا وأنا طفل في الرابعة من العمر من بلدة صغيرة في مورافيا. وبعد 78 سنة من العمل المثابر المتواصل تحتَّم عليَّ أن أهجر داري، وأن أشهد بأم عيني مآل الجمعية العلمية التي أسستها إلى الحلّ، ومؤسساتنا إلى التدمير، ودار منشوراتنا (فرلاغ) تغزى وتستباح، والكتب التي ألَّفتها تصادر أو تلقى طعمة للنار، وأولادي يُبعدون عن مهنهم. ألا تعتقد أنه يتوجّب عليك أن تترك أعمدة عددك الخاص ليعرب فيها غير اليهود من الناس، ممن ليسوا معنيين بالأمر بقدري، ليعبِّروا عن احتجاجهم؟
إنني أشعر بقلق عميق بخصوص المقطع من رسالتك الذي يشير إلى بعض التعاظم في ظاهرة اللاسامية حتى في هذا البلد. أفلن تؤدي تلك الموجة من الاضطهادات الجديدة إذاً إلى إثارة موجة من التعاطف حتى في هذا البلد؟
بهذا الخصوص يحضر إلى ذهني قول سائر قديم:
الصخب للمغرور
والشكوى للغبي
أما الإنسان الفهيم المخدوع
فيمضي في سبيله ولا يفوه بكلمة(2)
مع كل احترامي
سيغ. فرويد