أثير- د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
على الرغم من التحديثات المستمرة للخطة الدراسية للطلبة في التعليم المدرسي الأساسي وما بعد الأساسي التي تطالعنا بها بين فترة وأخرى المؤسسات ذات الصلة، إلا أنها في حقيقة الأمر لم تصل إلى معالجة الجرح وتقف على عمق المشكلة والهاجس الوطني المرتبط بهذا الموضوع، والذي في تقديرنا الشخصي يجب أن ينطلق من ثلاثية أصيلة يجب أن يضعها نظام التعليم في أولوياته، وهي : الهوية، وسوق العمل، وبناء المهارة، هذه المرتكزات الثلاث في ظل نتائج القبول الموحد تحتاج إلى إعادة تدريسها في إطار التعليم ثنائي اللغة، فإذا ما سلّمنا بأن اللغة الإنجليزية هي لغة الاقتصاد والاستثمار والمال والفضاء والتقنية والتجارة العالمية، كانت الحاجة إلى إعادة هيكلة وجودها في الخطة الدراسية ليس بطرح لغات أخرى بقدر احتواء هذه اللغة بشكل أكبر وأوسع، وعبر تدريس جملة من المواد في الخطة الدراسية باللغة الإنجليزية كالرياضيات والعلوم أو الكيمياء والفيزياء والأحياء، مع الاحتفاظ بالحصص المقررة لمادة اللغة الإنجليزية ذاتها في الخطة الدراسية لتقليل الفجوة، خاصة في ظل ما يظهر من نتائج القبول الموحد وخيارات الطلبة واختياراتهم ارتكازها على نتائج الطالب أو الطالبة في اللغة الإنجليزية كمحك أساسي في استحقاقات الحصول على أفضل المقاعد الدراسية والتخصصات ودخوله العديد من الجامعات التي وضعت في معايير القبول لمدخلاتها حصولهم على سقف عالٍ في اللغة الإنجليزية، كما لم يتاح فيها الدخول للطلبة الأقل تقديرا في اللغة الإنجليزية حتى مع ارتفاع المعدل التراكمي العام للطالب أو الطالبة، الأمر الذي سيدعم تعلم الطلبة أساسيات اللغة والانتقال بها إلى تجسيد مصطلحاتها ومفرداتها في حياتهم الدراسية كالمواد الأخرى وتطبيقاتها في بعض التخصصات، الأمر الذي سيكون له أثره الإيجابي على حضور الطالب في السنة التأسيسية الجامعية وتقليل الفترة الزمنية لتأسيسه في اللغة الإنجليزية، لكونه قد اكتسب مهارة اللغة وتطبيقاتها في فترة مبكرة، وهو أمر باتت تتجه إليه الكثير من الجامعات حول العالم والجامعات الوطنية؛ نظرا للتكاليف والالتزامات الدراسية التي تلقي بأعبائها الإدارية والمالية والتدريبية على هذه المؤسسات.
على أن ما يفصح عنه الواقع التعليمي من هدر وفاقد في تعلم الطلبة ومهاراهم وقدراتهم واستعداداتهم والصورة القاتمة التي باتت تبنيها الورقة الامتحانية البحتة، يطرح الحاجة إلى ترشيق المناهج الدراسية وتقنينها وإعادة إنتاجها في ظل المعطيات المتجددة ، الأمر الذي سيجعل من الخطة الدراسية فرصة لاستعادة الأنفاس، وإيجاد مناخ تعليمي محفّز، وسلوك مهني يتجه إلى الكيف دون الكم والمحتوى النوعي دلا من المعرفة السطحية، وتعميق منهجيات البحث والاستقراء والتحليل والمقارنات والتجريب والحدس والفراسة التعليمية باعتبارها مرتكزات لنمو الخطة الدراسية وتعظيم قيمتها المضافة في حياة الطالب واهتمامها بأولوياته ومراعاتها لخبراته والبناء عليها بما ينعكس على استيعابها وتقبلها وتكثيف الأنشطة والتجارب والنماذج والحوارات واللقاءات والفلسفات لإثبات بصمة حضور لها في فقه الطالب واقتناع ذاتي بدورها في تغيير القناعات وتصحيح المسار ورفع سقف التوقعات وحفز جانب الإبداع والابتكار في فكر الطالب ، الأمر الذي سيعمل على توجيه بوصلة الأمان النفسية والفكرية والتخطيطية لهم، ويقلل من حجم التغيرات الدورية غير المدروسة أو الممنهجة والتي يتفاجأ الطالب بها في المؤتمرات الصحفية التي تسبق بدء العام الدراسي الجديد بأيام معدودات.
وأسهم وجود الفراغ التطويري وغلبة الاجتهادية في تحديد ما يريده المجتمع من التعليم، وهذا سوف ينحرف ببوصلة أولويات رؤية عمان 2040 عن مسارها، نظرا لعدم قدرة الممارسة التعليمية على صناعة منجز تحتكم فيه إلى المعايير والمؤشرات التي تضمن مصداقية التنفيذ، وما زالت هذه المعالجات تتسم بالقصور والنقص في صناعة صورة تكاملية للنموذج التعليمي المراد تحقيقه أو الذي يتناسب مع الحالة العمانية ، والفلسفة التي ينطلق منه والغايات التي عليه أن يؤديها، ومع أن فلسفة التعليم التي أعيد إنتاجها في عام 2017م قد أشارت إلى هذه المرتكزات إلا أنها ينقصها وضوح إجراءات التنفيذ وآليات العمل ومحددات الالتزام والممكنات والبرامج التي يجب أن تعمل عليها مؤسسات التعليم، فإن الأعداد المتزايدة للباحثين عن عمل وغيرها من القضايا والمسائل المجتمعية ذات الصلة، تضع التعليم أمام مسؤوليات كبيرة سواء ما يتعلق ببناء قدرات الطلبة ومهاراتهم التي يحتاجها سوق العمل وتتطلبها المؤسسات والشركات على حد سواء، أو إيجاد الحلول للظواهر الاجتماعية وقضايا الأمن الاجتماعي، وهي منطلقات أكد عليها جلالة السلطان المعظم في إشارته إلى مسار المواءمة التعليمية وتنويع المسارات ودور التعليم كبوابة المستقبل في استيعاب هذه الأولويات الوطنية وتأصيلها في فقه النشء، ودراسة القيم والظواهر الاجتماعية المقلقة ، فإن ما يحصل من توجهات ما زال خارج نطاق المواءمة، وطريقة تعاطي التعليم مع هذا المسار ما زال يتسم بالبطء والافتقار للنظرة التكاملية الكلية والمعمقة، وما زالت الممارسة الحاصلة غير قادرة على تجسيد المواءمة في برامج عملية محكمة وممارسات تطبيقية مؤطرة سواء كان على مستوى التعليم المدرسي أو العالي والجامعي، الأمر الذي نتج عنه وجود فاقد تعليمي لم تستطع مؤسسات التعليم المدرسي والجامعي تعويضه بالبرامج التدريبية والمهنية التي تتيح للطالب فرص المعرفة بأساسيات العمل أو امتلاك المهارات الناعمة والأساسية التي تتطلبها وظائف المستقبل. هذا الأمر يؤسس أيضا للاهتمام بمادة المهارات الحياتية باعتبارها اللغة الجامعة والمصب الذي يستوعب كل التوجهات الوطنية، لتأسيس ثقافة مجتمعية وإيجاد انسجام مجتمعي مع هذه الموجهات، في ظل مطالب الكثير من القطاعات بإدخال بعض المواد أو المفردات في السياق التعليمي ، بحيث تصبح مادة المهارات الحياتية شاملة جامعة لها ، مثل: القانون والبرلمان والأمن والسلامة والمرور والسلامة على الطريق، والصحة والغذاء، والمنصات الاجتماعية، والتسوق الإلكتروني وغيرها الكثير، نظرا للتحديات التي باتت تواجه النشء في ظل النقص المعرفي والمنهجي المؤطر الذي يوجه الطالب، الأمر الذي سيسهم في ربط الطالب بمهارات الحياة والتحولات التي تشهدها المنظومات الوطنية. وبالتالي أن تستوعب الخطة الدراسية هذه المعطيات وتقف على التحديات وتستقرئ الفجوة الحاصلة بين التعليم وسوق العمل والتخصصات الأكاديمية وموقع التعليم التقني والمهني والريادي في المنظومة ومستوى المراجعة الحاصلة للتخصصات الأكاديمية وحالة التكرارية التي تعيشها والنمطية التي غيبت المهارات الناعمة عن فقه المخرجات.
أخيرا؛ لم تعد مسألة إعادة هيكلة التعليم مجرد تغيير في المواد وإضافة مواد أخرى، بل أعمق من ذلك بكثير، إنها تعني إعادة تحديث هوية التعليم وفلسفة عمله في ظل المعادلة الثلاثية المشار إليها، وتحديد ما نريده من التعليم بمختلف تخصصاته وأنواعه، ومستوى التوقعات المرجو أن يحققها ليتم تقييم التعليم وقياسه في ظل امتلاكه لهذه المؤشرات، والاستمرار في مسار التغييرات الجزئية والأفكار الأحادية وحالة الخجل في تناول مسار المواءمة يضع التعليم في حلقة مفرغة، وتصبح هذه التجديدات ظواهر صوتية غير قادرة على سبر الواقع ووضع اليد على الجرح.