أثير- د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
تمثّل المدارس صورة مصغرة من الوطن الكبير، فما يحصل فيها من تفاعلات وحوارات وعلاقات وتفاهمات وانسجام يعكس صورة مشرقة للمجتمع، ويؤسس مسيرة حضارية نوعية في مفهوم البناء الوطني، وكلما استطاعت المدارس استيعاب التحولات والمتغيرات والتناقضات التي يعيشها الطالب في البيت والأسرة والمحيط الاجتماعي والكوني وقدمت له الدعم المعنوي والحصانة الذاتية الذي يحتاجها في تحقيق سلامه الداخلي وتصالحه مع العالم الخارجي، عزز ذلك من ثقته بنفسه، وقدرته على توظيف مهاراته، وتحقيق أولوياته التي هي خدمة وطنه، والمحافظة على سقف التوقعات الابوية والاجتماعية والتعليمية منه عالية، لذلك كان منطلقنا للحديث عن هذا الجانب العميق في محتواه والمتشعب في معطياته هو كيف يمكن أن تسهم المدارس في صناعة الفارق في حياة الطالب الفكرية والعقلية والجسمية والنفسية والقيمية والذوقية، وهل استطاع نظام التقييم المتبع أن يكشف ما بداخل الصندوق الأسود؟
إن تحقيق ذلك يستدعي اليوم العمق في فهم حركة التفاعلات الداخلية بالمدارس والأنماط الثقافية والفكرية والاجتماعية السائدة فيها، الأمر الذي يتطلب تطويرا شاملا في مسألة تقييم وقياس أداء المدارس بحيث تتجاوز العمليات اليومية المعتادة الإدارية والتنظيمية ولغة الأرقام والحسابات المالية والصيانة، إلى البحث في ثقافة المدرسة والعمليات والعلاقات الاجتماعية السائدة فيها والثقافات التي تتعايش معها، وعلاقات التعاون والالفة، او مساحات التنافس والروح الإيجابية وما يحصل من مواقف أخرى مغايرة لها، وعمليات الضبط الاجتماعي والأساليب المعتمدة فيها، والانماط الإدارية والتنظيمية السائدة، وانماط التفاعل في المواقف التعليمية للطلبة، وأساليب التعزيز والتحفيز او التأنيب والعقاب أو الظواهر السلوكية والنفسية التي باتت تظهر في محيط المدرسة وغيرها من موجهات التوعية والتثقيف والتصحيح وإعادة هندسة العمليات، هذه الجوانب المعمقة الغير منظورة في قاموس تقييم وقياس أداء المدارس باتت تمثل اليوم أهم أسباب الهدر والفاقد التعليمي، وأكثر المهددات التي باتت تنهش في جسم التعليم .
على أن إرهاصات الواقع التربوي وما تبرزه الممارسات في ميدان التعليم من ثغرات وفجوات وتباينات بحاجة إلى تبني فلسفة التغيير في مسار الرقابة على المدارس وفهم مسبباتها والوقوف على معطياتها وتلمس الظروف والعوامل المؤثرة فيها، والهاجس المجتمعي الذي بات يشكل قلق كثير من أولياء الأمور حول مستقبل أبنائهم وجودة تعلمهم وحصول كل طالب على حقوقه التعليمية ، بما يؤكد ضرورة أن تنتهج عمليات الرقابة على المدارس أطرا واستراتيجيات أخرى بهدف مساعدة المدارس في تجاوز حالات الإخفاق التي تواجهها في إدارة منظومة تعلمها، والتباينات الحاصلة في المنتج التعليمي، والمساحة المتاحة للطلبة في سبيل حصولهم على الحق التعليمي ذاته وتقليل مساحة الاجتهادية، في مصطلحات مريبة وعبارات غير عادلة باتت تعكس مساحة الخلل في المكون التعليمي، وأسهمت في تغريب الطالب عن مبادئه وقيمه وجماليات البراءة فيه في تمجيده لــ الأنانية والفردانية والسلطوية ونزوة الشهرة وحب الظهور ، مثل: الطالب المجيد والطالب المتفوق والطالب المشارك أو النقيض لذلك ، مما بات يعكس ثقافات أخرى في بيئة التعليم، ويعطي صورة سلبية حول المسار الذي تعمل عليه بعض المدارس والإطار التي تبني خلاله أحكامها وقراراتها وتصرفاتها.
وبالتالي ما إذا كان هذا الأمر نتاج عدم وضوح الدور وكفاية أو كفاءة الصلاحيات المتاحة للمدرسة أو فراغ الضوابط التشريعية والتنظيمية المنظمة لجودة الحياة في البيئة المدرسية، وما نتج عنه من غياب مفهوم الرقابة التأملية والمستديمة للمكون التعليمي وتفاصيله، واقتصار المسألة على زيارات وقتية للمدارس، واطلاع على مقتضيات إدارية بحتة ، والذي أغفل الاهتمام بالجوانب الفنية والممارسة الحاصلة في بيئة التعليم والتعلم، من حيث كفاءة السلوك التعليمي المعتمد، وأسلوب العمل المتبع، وآليات التعامل وطريقة التصرف والقرارات المتخذة، والقناعات التي باتت تتولد لدى الطلبة حول مساحة الفرص والعدالة التعليمية الممنوحة لهم جميعا في التعبير والرأي والمشاركة والتكاليف، أو ما يحصلون عليه من اهتمام ورد اعتبار وبشاشة وابتسامه ورعاية واحتواء وتشجيع وتحفيز ، ثم مستوى العدالة التربوية في طريقة التعامل مع الخطأ أو تقويم السلوك وفي إعادة الهيبة والاحترام والثقة في ذات الطالب نفسه، يضاف إلى ذلك هاجس الخوف وثقافة الرهاب التعليمي التي باتت تستشري في الطلبة نتيجة حاجز الصد ، وسوء التصرف أو ما يحصل له من طرد أو تأنيب نفسي أو نقله إلى مجموعة أخرى يسودها الضعف وعدم الاهتمام، أو طبيعة التعقيد في إجراءات نقل الطلبة وما يحصل فيها من تجاوزات وتصادمات كلامية مع أولياء الأمور، أو عدم اهتمام المنفذين التعليميين لما يطرحه الطالب من تساؤلات أو إجابات ، الامر الذي أسهم في زعزعة الثقة، وزيادة حالات الانطواء والخوف، واتساع ظاهرة التنمر بين الطلبة بأساليب وأشكال وأنماط مختلفة.
على أن فجوة استدراك واحتواء ما يدور في بيئات المدارس من تفاعلات وتباينات واختلافات، أسهم في نمو بعض الممارسات والظواهر السلبية التي باتت تنتشر في ثقافة المدارس والصف الدراسي، سواء ما يتعلق منها بالبعد الأخلاقي أو السلوكي، والتداول لبعض الممنوعات بين الطلبة، أو تعرض الطلبة للابتزاز الالكتروني ، هذه الفجوات التي لم تنتبه لها المدارس في اكثر الأحيان بحجة ارتفاع نصاب المعلم من الحصص وكثافة المنهج والالتزام بزمن التعلم إلى غيرها ، مع ما باتت تمثله من تراكمات نفسية وفكرية أسهمت في خلق مسار تعليمي غير منتج، ومواقف تعليمية غير مريحة يكبتها الطلبة في مشاعرهم وتتعايش نوازعها وصراعاتها في دواخلهم ، ولّد لدى بعضهم سلوك الانتقام او التصرفات غير المسؤولة، وما فجوة التكيف التي يعيشها الطالب مع واقع المجتمع وظروفه أو مستجداته، أو التعامل مع الأوامر والنواهي والتعليمات وقواعد الالتزام المنزلي أو غيرها إلا أمثلة على هذه الفجوة.
أخيرا، على وزارة التربية والتعليم اليوم أن تعيد قراءة مسار الرقابة على المدارس وتصحيح بعض الممارسات التي أسهمت في هذا التراجع في المكون القيمي والأخلاقي والنفسي والاجتماعي والفكري للطلبة، ونعتقد بأن مسالة الرقابة على المدارس لم تعد مجرد زيارات ميدانية يقوم بها المشرف التربوي للمعلم والمشرف الإداري لمدير المدرسة، أو بعض اللجان المكلفة بمهام إدارية ومالية محددة ، بل هي أعمق من ذلك بكثير، إنها العيش في ظروف مدرسية مختلفة، وقراءة حركة التفاعلات والأنماط والعلاقات والسلوكيات والقناعات التي باتت تعبر عن جودة الحياة المدرسية وكفاءة الإنتاجية التعليمية ( ثقافة المدارس وخصوصياتها وحركة وانماط التفاعلات فيها) ومستوى الدعم النوعي المتكامل والمنتج المقدم من المديريات التعليمية في مساعدة المدارس لمعالجة واقعها والأخذ بأيديها والحفاظ على المكاسب المتحققة فيها، الأمر الذي يعني التأكيد على الابعاد الاجتماعية والسلوكية والنفسية والإدارية والعلاقات الإنسانية وثقافة العمل داخل المدارس ومساحات التواصل بين الطلبة والمعلمين وإدارات المدارس وأولياء الأمور، وحجم الحساسيات والتباينات الحاصلة في البيت الداخلي ومدى اقترابهم جميعا أو مشاركتهم في تحقيق هدف التعلم، والمساحة المتاحة للطلبة جميعا في ميزان العدالة التعليمية في تعلم عالي الجودة يراعي القدرات والمهارات كما يراعي المشاعر والاحاسيس ويرصد بكل دقة تفاصيل ثقافة العمل اليومية والفرص التي تسهم في خلقها أو إنتاجها.