أثير- الروائي الأردني جلال برجس
أؤمن أن العالم محض حكاية تُروى، وأن كل أشكال الفن والأدب، ما هي إلا أدوات لإعادة إنتاج تلك الحكاية من جديد، فنعاين أوجاعنا، وأفراحنا، وآمالنا، وانكساراتنا، وخسائرنا الفادحة. ونمارس عبر هذا الدور اجتراح حريتنا، وفكرة الخروج على كل التلبد والتكلس الذي يعيق حركتنا في سياق هذا العالم. فكلنا رواة. لهذا يمكن لي أن أقول أن الرسامة (فريدا كاهلو)، و من على سريرها في إحدى ضواحي (كويوكان) المكسيكية، استطاعت أن ترى العالم من زاوية استثنائية عميقة، واستطاعت أن تصوغ بريشة الرسم، روايتها الخاصة، والتي توزعت في 150 لوحة متميزة ذات بعد داخلي مستكشف للبواطن، من دون أن تبتعد عن الواقع، رغم ذهابها نحو مخيلة عاتبة على واقعها المر، معرية الألم بأدوات غرائبية، من كل ما يمكن أن يضفي عليه شيئاً من القداسة. بل قبحته وأظهرته بأبشع صوره التي عادة ما يظهر فيها في وقت هجوماته الكاسحة.
فعبر كل سنين حياة فريدا كاهلو الفنية، كان لها أن تكتب روايتها عبر 150 لوحة متميزة، وكأن تلك اللوحات فصول لرواية استلهمت واقعها، بأدوات غرائبية، لم تفضل أن تصنَف سوريالياً، بل أكدت على أن هذا الغرائبي هو الواقع بحد ذاته. إن ما حدث مع فريدا كاهلو هو كتابة لرواية بصرية، بكل عناصر الرواية التي حتماً ستتضح للمراقب لمنجزها الفني. ابتداء من الافتتاحية، ومرراً بالدخول إلى صلب الحكاية، ومن ثم الشخوص، والعقدة التي كانت متأزمة في منجزها البصري العميق، وانتهاء بآخر لوحاتها، التي كانت فاقدة للأمل فيها. وهذا يؤكد ما رميت إليه، بان عالمنا بحد ذاته حكاية، وما نحن إلا شخوص نقوم بأداء الأدوار فيها، لكن الرهان الحقيقي، هو الحرية، فإن لم تمارس الحرية داخل القفص – أيّ قفص- فتحلّق رغماً عن القضبان – أيّ قضبان- فإنك لن تستطيع ممارستها بعيداً عن كل المعيقات. وإن لم تُزل عن فم قلبك، وعقلك، وروحك، ذلك الغربال، فأنت معتقل حتى لو حمَلك الهواءُ على جناحيه، وصرت كالطيور ترى الأشياء صغيرة من علو.
من أب ألماني هاجر إلى المكسيك، ومن أم مكسيكية ولدت (فريدا كاهلو) في السادس من تموز من عام1907، في ما كان يسمى (بالبيت الأزرق)، بيت والديها. لكنها ولدت وفي فمهما ملعقة من أسى أخذ يقتحمها منذ عمر السادسة، حينما توقفت قدمها عن الحركة نتيجة لإصابتها بشلل الأطفال، فجنَت إعاقة تمثلت بنحافة قدم عن الأخرى، جعلت أقرانها يلقبونها بذات القدم الوتدية. إعاقة أفردت مساحة شاسعة في دواخلها من القلق النفسي، والألم الكبير والنظرة المشوبة بالانكسار، فحرمتها من أن تكون كأي فتاة ترتدي الفساتين، مستعيضة عن ذلك بجوارب طويلة تخفي ما وراءها عن الناس، من دون قدرتها على أن تواري عن ذاتها ما في داخلها من إحساس مريع بالتشظي والنقصان. ولم يتوقف القدَر عند هذا الحد، بل امتد لتتعرض إلى حادث باص وقع لها في العام 1925 ، جعلها تستلقي على ظهرها لعام كامل في غرفتها، تقاسي العزلة والوحدة، والانشطارات النفسية، رغم رعاية والدتها لها، التي علّقت بسقف الغرفة مرآة ضخمة ربما كان الغرض منها كسر وحشة بالفعل تسللت إلى نفس فريدا بضراوة.
ومن تحديق مستمر لفتاة عليها أن تمضي عاماً بلا أية حركة، ولد جنين الرسم من رحم روح فريدا كاهلو، فطلبت من والدتها أدوات رسم، أخذت وعبر تلك المرآة تجسد ملامحها، إذ جعلتها تلك التجربة تكتشف أن لها موهبة راحت فيما بعد تعاين عبرها الألم، بكل تجلياته البشعة.
لا أحد يستطيع أن يجزم بقول حيال الغرض من تعليق تلك المرآة الضخمة في سقف غرفة فريدا كاهلو. ربما كانت صدفة، وربما العكس هو الصحيح. لكن الشيء الذي يمكننا أن نجزم بشأنه، أن تلك الصدفة أنقذت تلك الفتاة الأسيرة لمرضها، ولسريرها وبالتالي لما جنته من آلام نفسية وجسدية، من الانهيار. فالتحديق صار البوابة الأولى للعبور نحو ردهات النفس ومجاهيلها. عبور جعل فريدا ترفض فكرة ذلك الشكل من السجون الذي حرمها من المشي والحركة في عالم غير مستقر ولا يركن للسكون. لهذا ذهبت إلى الرسم لتمشي. لكنها مشت في عوالمها الداخلية، وكأنها تمثلت مقولة صديقها وأحد معاصريها (بيكاسو) الذي قال إن “الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية”. فمع احتلال ذلك الكم المريع من الغبار لروحها المترعة بالألم، كان لا بد من يد تزيل ذلك العائق المتلبد، فاهتدت إلى أن تروي أوجاعها بالريشة. إنها مهمة شاقة كانت فريدا سعيدة بها، وهي عبرها تختصر عالماً في دواخلها بلوحات، طالما نفت عنها الانتماء إلى السريالية، مصرة على أن ما ترسمه هو الواقع بعينه، قائلة (لا أرسم أبداً أحلاماً، بل أرسم واقعي الحقيقيّ فقط ). فعبر منجزها التشكيلي روت فريدا كاهلو رسماً قصة حياتها غير مهتمة بما يجب أن يقترب منه الفنان، أو يبتعد عنه كالتقريرية والتوثيقية، والمباشرة، على حد قولها (أرسم واقعي، وأرسم نفسي لأنّها الشّخص الذي أعرفه معرفةً تامّةً. الشّيء الوحيد الذي أعرفه أنني أرسم لأنّني بحاجة إلى ذلك، وأرسم كلّ ما يجول في رأسي دون أيّة اعتبارات أخرى. لست مريضةً، بل أشعر بالانكسار، لكنّني سعيدةٌ طالما أستطيع الرّسم).
فمن شرفة تلك المرآة أطلقت فريدا خطواتها مشياً عبر ضربات ريشتها الجريئة، لتسرد حكايتها متكئة على إحساسها الداخلي بالرسم رغم تلقيها دروساً مقتضبة، ورغم صداقتها ببكاسو الذي قال عنها “لا أنا ولا أنت يمكننا تجسيد رسم الصّورة الشّخصيّة كما تفعل فريدا”.
يحضر وجه فريدا في أغلب لوحاتها، إلا من بعضها التي لم تبتعد فيها عن انعكاسات الوجع على دواخلها، فيحيلنا هذا إلى أنها أنجزت مشروعاً سردياً بصرياً متكاملاً، سواء كان مقصوداً أم لا. ففقد اتكأ وجهها الذي يشير إلى نص بصري طويل، على التداعي الحر، كما يحدث في السرديات الحديثة التي أتت نتيجة لانهيار الثقة بالمجال الإنساني، حين اكتنفته العديد من ذبذبات مغناطيس الألم، وبالتالي الموت بكل مجازاته. فالتمحيص وبالتالي قراءة ما وراء تعالقات اللون بحركة موضوعات اللوحة لدى فريدا وخاصة لوحاتها الأولى، يأخذنا إلى أن تكرار وجهها بتينك الحاجبين المعقودين، هو محض مونولوج بصري، وانثيال سردي يحكي ما يحدث في دواخل تلك الإنسانة المصابة بالوجعين، الجسدي والنفسي. وكأننا حيال افتتاحية لنص أنفقت سنوات في إنجازه. ففي السرديات الحديثة غالباً ما تُفتتح الروايات بمونولوج تكتنفه روح التداعي الحر، الذي يأخذ القارئ عبر تلك الحساسية إلى البحث عن أجوبته في تلك الرواية، وهذا ما سيحدث لأي متابع وقارئ بصري لأعمال فريدا كاهلو، وقد جاءت أعمالها متوافقة مع أحداث حياتها، دون أن يكلفنا ذلك العناء الكثير، لنطابق منجزها السردي البصري بسيرتها الحياتية المتفردة بالألم. ففي بورترية (شجرة العائلة) تحكي فريدا عن عائلتها، وتبرز مدى حبها لهم. تلك العائلة التي وقفت بجانبها محاولة أن تخرجها من محنتها، حينما دفعوها للانضمام لنوادي السباحة وكرة القدم، لتمارس الرياضة بعد أن أصيبت بشلل الأطفال والتشوه في قدمها. فيجيء ذلك البورتريه بمثابة تعريف للقارئ البصري بشخصية العمل، تماماً كما يحدث في روايات تتكئ على روح السرد الذاتي المتقاطع بالموضوعي.
فيما بعد وعبر الذهاب إلى الحب، ترسم فريدا لذاتها بورتريه (في الرداء المخملي) عام 1926 وتهديه إلى ( أليخاندرو جوميز أرياس) وهو أحد الشباب الثوريين، الذي كان حبها الأول لكن والدة أليخاندرو أبعدته خارج المكسيك، فوأدت بذلك حكاية الحب تلك. والمتمحص بهذه اللوحة يجد فيما وراء اللون والاعتناء بتفاصيل الحركة، مونولوجاً بصرياً يحاكي الحبيب، فجرعة الألم التي اعتدنا عليها في لوحات فريدا، مخففة في هذه اللوحة؛ إذ حل محلها إحساسها العميق بحب جاء اللون المخملي الدافئ ليرمز إليه.
وتمضي فريدا كاهلو في سرد سيرة حياتها من سريرها، وعبر ألوانها الجريئة، فترسم لوحة (الحافلة) وقد عبرت فيها عن تأثرها بأفكار الفنان الشيوعي ذائع الصيت (ديجو ريفيرا) وكأنها تأخذ القارئ البصري إلى جهة أخرى كما يحدث في الروايات لكسر الرتابة، من دون أن تبتعد عن حضورها في اللوحة، وعن علاقة بالموضوع بقلبها الذي وقع بحب ديجو ريفيرا المتقدم عنها بالعمر عشرين عاماً، فتزوجا في العام 1928 ، وقامت بجولات عديدة معه في العالم، وقد ازداد حبها له، فعبرت عن مدى سعادتها بزواجها به بلوحتها التي يبدو فيها ديجو ممسكا بألوانه بيد، وبالأخرى يمسك بيد فريدا، وهي تضع على جسدها رداء أحمر يشي بحب كبير يعمر قلبها. لكن حياتها مع ديجو لم تمض كما كانت تتمنى، فقد اعترت تلك الحياة كثير من الآلام والآمال المجهضة، ابتداء بفقدانها الأمل بأن تحقق رغبتها بأمومة بقيت مفقدوة لديها، فعبرت عن ذلك بلوحتها المغرقة بالألم عبر ألوان ومجازات تشي بألمها الكبير حيال فقدانها ما تمنته. إذ أثثت اللوحة ألوانٌ داكنة فيها إشارات كبيرة إلى الوحشة والوجع ونباتات شيطانية وسماء داكنة. إنه سرد البصري جعل من التفاصيل واللون والحركة للجسد والروح والقلب فصلاً من فصول حكاية فريدا كاهلو.
لم تدم علاقة فريدا بديجو فانفصلا بعد حياة شابها الكثير من الخلافات، فرسمت لوحتها ( الفريدتان) والتي كانت موضوعا لانقسام فريدا إلى شخصيتين منفصلتين، واحدة ترتدي الزي المكسيكي المبهج بألوانه الفاتحة التي انعكست حتى على وجهها، والأخرى لفريدا الثانية بزي ذي ألوان داكنة ووجه مليء بالأسى، وبينهما شريان بُتر بمقص تمسكه فريدا بيدها اليمنى، وقد سقطت منه بضع قطرات من الدم. لقد ألقت تجربتها مع ديجو الكثير من ظلال الألم على حياتها المؤلمة في الأصل، إذ تقول في هذا الصدد (مررت في حياتي بحادثين فادحين شديدي الخطورة، أولهما حادثة الحافلة، وثانيهما زوجي ديجو، والذي أعتقد أنه الحدث الأكثر فداحة بين الحدثين). ففي لوحة لغزال رأسه هو رأس فريدا نفسها، تسرد فريدا ما شعرت به من خيبة كبيرة، وقد رمزت لذلك بعدد السهام التي استقرت بجسد الغزال الذي يعاني دوما جدلية الصياد والضحية ومنذ لك الحين، أخذت لوحات فريدا كاهلو تتابع ساردة حياتها عبر ألوان في مجملها داكنة وتفاصيل موحشة وغرائبية موجعة، وكأننا أمام رواية تسردها فنانة بريشتها عبر جدلية كل تلك الألوان، بالحركات الداخلية والخارجية لشخصية اللوحة. تردت صحة فريدا، حتى بعد أن عاد إليها زوجها الفنان ديجو، وامتثلت لأوامر الدكتور ( إيلوسيير) بأن تبقى رهينة نظام غذائي إجباري فعبرت عن كل انشطاراتها وتشظياتها الداخلية تلك بلوحة ( بغير أمل) وهي تبرز فريدا بأسوأ أحوالها، ممدة في السرير، وأعلاها منصب خشبي تتدلى منه كتلة لحم غريبة تعلوها جمجمة. لكن علاقتها بالفنان التشيكي ( جوزية باترولي) منحتها شيئاً من أمل أدى إلى لوحة تدعى ( شجرة الأمل). لقد كانت صداقتها بباترولي إحدى أنواع الصداقات المنقذة، وهذا تبدى عبر خطاباتها بينها وبين باترولي حينما عبرت له (أنا لازلت صديقتك، بل رائعتك كما اعتدت أن تقول، أما محبتك فشجرة أملي، أنا انتظرُك دومًا، فهل تعود في مارس أم أبريل؟)
في أواخر أيام فريدا كاهلو، تردت صحتها، فبترت ساقها نتيجة لإصابتها بالغرغرينة. فكانت حرة متمردة، ومثالاً مهماً للإنسان الذي رفض السجن في واقعه رغم الألم. وفي الثالث عشر من يوليو عام 1954، توفيت فريدا كاهلو بعد أن تمنت ما يريحها (أتمنى أن يكون الخروج من هذه الحياة ممتعًا، كما أتمنى ألا أعود ثانيةً)