الروائي الأردني جلال برجس يكتب عبر “أثير”: لأجلها تَعَلّمْتُ القراءة

أثير- الروائي الأردني جلال برجس

بعد مرور ثلاث سنوات عليَّ في المدرسة بت قادرًا على القراءة؛ فرحت أتجهز للحظة التي أهزم فيها حزنًا رأيته في وجه أمي يوم أخبرتني بأسلوب طفلة عن عجزها عن قراءة القرآن، ولِما شعرت به وأنا أفتح الحقيبة الجلدية، وأنظر في رسائل عمي عزيز من غير قدرة على فهم ما يقوله فيها. كان ذلك في مساء صيف 1979 نجلس أنا وشقيقاتي واشقائي بمعية أمي قبالة تلفاز لا ألوان فيه إلا الأبيض والأسود، مربوط ببطارية سيارة تكفي أيامًا فقط لتشغيله، تتابع مسلسلًا عاطفيًا يحكي قصة حب فيها الكثير من الوجع، وتجفف دموعها بباطن يدها كلما علت وتيرة المشاهد.

حينما انتهى المسلسل نهضت بتكاسل، وجهزت لنا فراش النوم، مجموعة من الفرشات الصوفية تصفها جنبًا إلى جنب، تغلفها بغطاء بلاستيكي رقيق، تعلوه بطانية يحمي الفرشات من تبول بعضنا الليلي. فراش نندس فيه، ونروح في ربع ساعة من المزاح إلى أن ننام.

ليلتها لم أذهب إلى الفراش، بقيت بقربها وهي مستلقية على جنبها، تسند رأسها بيدها، وتغرس كوعها في الوسادة، وتنظر في الفراغ رغم نعاسها الواضح. حملتُ القرآن ورحت أقرأ. هكذا من دون مقدمات. انتصبت جالسة، وعلى وجهها ترتسم دهشة تعلوها البهجة، ثم اتسعت حدقتاها، وأخذت شفتاها تتراقصان؛ فأجهشتْ ببكاء صامت.

لم أتوقف عن القراءة. كانت تنصت باهتمام كبير، ويدها مرة تلامس رأسي، وأخرى تضعها على كتفي. ليلتها كنت أعي أني أفعل لأجلها ما يمكن أن يضيف إلى روحها الكثير من الفرح. استلقت في فراش النوم، وأنا ما أزال أقرأ من دون توقف إلى أن نامت، كما ينام الأطفال وأمهاتهم يروين عليهم القصص. كان وجهها في أعلى درجات صفائه، وأنفاسها هادئة مطمئنة.

رفعت غطاء النوم ولذت بحضنها؛ طوقت عنقي بذراعها؛ فربحت السكينة. حين استفقت صباحًا، لم تكن ملابسي مبتلة. كانت آخر ليلة أبول فيها على نفسي، بعد سنين كنت أراني فيها أقف على مرتفع يطل على مدينة وأبول، فأصحو حينما يبرد السائل، وتبرد ملابسي. يومها ذهبت إلى بيت جدي، وفتحت الحقيبة الجلدية، ورحت أقرأ رسائل عمي عزيز. كنت أقرأ بصوت مسموع، أعيد العبارات وأتوقف عند بعضها.

رسائل منها ما يصف المدن والقرى التي زارها في رومانيا، ومنها ما يتحدث فيها عن دراسته وأحلامه، وكيف سيخرج بالعائلة إلى ما هو أفضل. كانت له لغة رقيقة، جميلة، قادرة على أن تأخذ قارئها إلى عمق ما أراد أن يصل إليه، إنها فتنة اللغة حينما تصبح طيعة في طريق السرد.
من قبل حفظت أسماء المدن، والشوارع وأسماء أصدقائه منذ أن كان يتحدث عنهم عندما يعود إلى حنينا. وحينما قرأت رسائله وقف الحلم بالسفر عند مسمعيَّ وهمس لي بما أريد، رغم أني كنت أعتقد أن المسافة بين حنينا وبين رومانيا قصيرة. إنها سذاجة ولد قروي لم يكن يعرف من الجغرافيا إلا ما هو في حدود البصر. في تلك الأيام اتسعت رقعة القرية، لكنها بقيت مكانًا وادعًا وبيوتها تربض على تلك التلة التي تطل على مادبا. مدينة منذ زمن ما قبل المدرسة أجلس قرب البيت على مرتفع، أرخي رأسي بين يدي، وأتأملها بعطش أسبابه ما تزال غامضة. كنت أحلم بالمدينة من دون أن أدري أي الأشياء يمكن أن تسلبها مني المدن، وأي الأشياء يمكن أن توفرها لي القرية.


Your Page Title