فضاءات

الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب عبر “أثير”: مَنْ هَدّمَ شُرْفَةَ وَالِدِي؟

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج

شتاء آخر قاس. لا شيء في الأفق. منذ أن أخذوا والدي لسجن “السواني” انقطعت أخباره تقريبا. وما زاد في شطط العيش هو أن الخيام التي نقلنا إليها كانت هشة. العاصفة الأخيرة كانت قاسية، بعثرت كل شيء. لأول مرة نجد أنفسنا تقريبا في العراء. حتى الحركة صباحا باتجاه بيتنا القديم كانت مشروطة برضى من يكون على معبر الأسلاك الشائكة الملغمة والمكهربة، بعد تبرير الذهاب إلى بيتنا، في دشرة “تيغراو”. أرضنا هناك، وبقرتنا الحلوب هناك أيضا، وبعض رؤوس الأغنام التي اشترتها جدتي، حنا فاطنة.
القرية كلها أصبحت سجينة داخل خطي موريس وشال.
تصعد الشمس الصباحية بصعوبة مخترقة الغيوم الثقيلة. أصوات الديكة تأتي من عمق القرية. حركة الناس فوق الدواب والأغنام. تبدأ القرية نشاطها. صف كبير عند المعبر، لكن الناس يمرون بسهولة نسبية في هذا الصباح، حتى أن الوجوه أصبحت اليفة بالنسبة لحراس المعبر، بالخصوص عندما لا تكون هناك حركة.
حلّست أمي البغل. وضعت فراشا على ظهره حتى لا تؤذيه الأثقال، وضعت البردعة وربطتها بمشد قوي، ثم أضافت على الخرج، ووضعت الرسن في فمه.
اركبتني على ظهره، ثم قفزت على ظهره بدورها. كنت أشد بيدي على بطنها حتى لا أسقط. تذكرت لما كنت أرافقها إلى سوق الأحد في السواني. أضع رأسي على ظهرها وتحدثني عن أشياء كثيرة حتى أنام لكني أظل مشدودا إليها.
وسرنا باتجاه حبس السواني. لا أسمع إلا حدوتي البغل وهي تتناغم بشكل متواتر لا أقاوم لذتها التي كثيرا ما تدفعني نحو الغفوة.
قررت أمي البارحة هي وحنا ألاّ تبقين مكتوفتي الأيدي بالخصوص بعد غياب أخبار والدي نهائيا. حتى تلك الزيارات القاسية برفقته في سيارة جيب، لفتح المطامير والتفتيش، انقطعت نهائيا. لكنها كانت تعطينا الثقة بأنه ما يزال على قيد الحياة. عندما سألتْ أمي زوجة صديقه السي بوزيان، كانت نفس الإجابات، أنه لم يعد منذ أن أخِذ هو وأحمد. لهذا شعرت أمي بحاستها العميقة أن شيئا ما قد حدث، ولابد من التحرك.
وصلنا مبكرا. كانت حركة العسكر في الثكنة قد بدأت. ليس بعيدا عنا، كانت فرقة عسكرية تتدرب بالمكان. شاحنة ثقيلة من نوع GMC، تتوقف أمام بناية كبيرة، وعالية. تنزل الخبز والحليب وكراتين من أشياء أخرى. ثم تغادر محدثة صوتا جافا بمحركها الخشن.
تربط أمي البغل بعيدا عن مدخل الثكنة. تأخذني من يدي ونسير باتجاه حميد الشاوش، ابن القرية الذي كانت أمي تعرفه جيدا. كان يرمي الماء على الأرض بقوة حتى يسمع صوته. ينظف السجن. يحك الأرض بالمكنسة الخشنة التي كانت معه. تقترب أمي منه لكن حارسا يوقفها في مكانها. قال” انتظري لحظة حتى يأتي الشخص المسؤول” نجلس على كرسي معدني طويل في العراء، يبدو أنه لم يجلس عليه أحد منذ زمن بعيد.
بينما لم يتوقف عمل حميد الشاوش. ظل يكنس حتى غاب بين الزنزانات الضيقة في شكل علب لا هواء فيها، وكأنها عبارة عن بوكسات حديدية وضعت هناك جاهزة.
كنا جالسين أنا وأمي على الكرسي الحديدي البارد، ننتظر أن يسمح لنا بالدخول. نبهنا الحارس إلى أحمد عبو الحركي المكلف بالتواصل مع عائلات القرية، الذي كان يدور في ساحة الثكنة وفي يده فرع زيتون لا يغادره أبدا. اقتربت منه أمي وحيته:
– صباح الخير خويا أحمد.
انتفض في مكانه وبدأ في تأنيب أمي.
– رجعت مرة أخرى؟ يا خي قلنا لك ما تجيش حتى أنادي لك.
– أنت تعرف أنه لا معيل لنا غيره. سمعنا أن غالبية السجناء اقتيدوا إلى تلمسان لأن سجن السواني صغير ولم يعد كافيا. جيت نبشر زوجي بوليده عزيز. سميناه عزيز بلا ما يعرف. مين قلت له في آخر زيارة له في السجن: كيف نسميه قال أنت واش تحبي. اللي يعطيه ربي أنا قابل به، بنت وإلا ولد. ولما أصررت عليه قال عزيز أو مريم.
قال أحمد عبو:
– راح أخبره أنك وصلتِ.
– لا. أنا هنا من أجله. وهذا يوم زيارته الطبيعية.
– بعد غيابك حدثت أشياء كثيرة. الكثير من السجناء أخِذوا إلى لتلمسان. هو ليس هنا، وزنزانته فارغة. من أسبوع لم يعد هنا. لم أره عندما أخرجوه ولكني أعرف أنهم أخذوهم لمدينة كبيرة للمحاكمة. هو من المتعلمين وسيكون عنه بوقاضو (محامي) ما تخافيش عليه. المتعلمون يضعونهم في زنزانات تليق بهم.
– وبوزيان.
– هو أيضا. أخذ معا.
– لكن بوزيان إنسان بسيط في تعلمه. وعلاه أخذوه؟
– لا أعرف حقيقة. تلمسان أفضل لهما. هناك يرتاحان بشكل نهائي. أفضل له من حبس السواني الكئيب والمزنجر. الحبس هنا، لا شيء فيه إلا الخرسانة الصلبة والباردة. في تلمسان يلبس مليح، ويأكل مليح، يعيش مليح. يهنيك من الروحة والجية. تلمسان مدينة كبيرة عليك وممكن تضيعك.
– نحب نشوفو. أطمئن عليه على الأقل.
لم يرد عليها ولكنه غمّ رأسه بين كتفيه.
– يبدو أن كل ما قلته لم يصلك أبدا. روحي لتلمسان.
– معليهش سامحني. اتركني أرى المسؤول العسكري.
بدل أن يجيبنا، انسحب دون أن يضيف ولا كلمة. تقف أمي في باحة السجن وحيدة. محاولة تفادي بصري، على الرغم من ذلك، رأيت تلك الدموع الحارة التي أحرقت وجهها الذي كان قد فقد كل بريقه. التصقت بعباءتها وهي تحاول الدخول عند المسؤول العسكري. ولكن الحارس الذي كان يقف عند الباب منعها.
– Vous n’avez rien à faire ici madame, c’est un lieu interdit (هذا ليس مكانك سيدتي. ممنوع.)
فهمت كلماته. تجيب بصرامة ولا خوف.
– زوجي يا سيدي وأنا هنا لرؤيته. من حقي أن أستفسر عن وضعه.
– كان عليك أن تمنعيه من الالتحاق بغابة الإرهابيين.
– زوجي ليس إرهابيا. دافع دوما عن الحق. أخذوه بغير حق.
– كلكم هنا تقولون نفس الكلام.
– Il est a Tlemcen, il n’est plus ici (لم يعد هنا، فقد أخذوه إلى تلمسان)
ثم ينسحب الحارس وهو ينكت مع أحمد عبو، كبير الحركى.
بينما نبدو أنا ويمَّا ضائعين في فراغ ساحة الثكنة.
حارس آخر جاء ليعوض صديقه. كان أكثر ألفة في وجهه من الأول. نادى لحميد الشاوش.
– حميد تعال. شوف مع المرأة ماذا تريد حقيقة. من ساعة وأنا أشوفها تدور في نفس المكان. يجب ألاّ تبقى هنا.
– أعرفها سيدي سأرى معها. أغلب الظن أنها جاءت لترى زوجها، الذي قيل لي إنه بعث إلى تلمسان. نظفت زنزانته هذا الصباح.
– أنت تعرف جيدا ماذا يعني ذلك.
يهز حميد رأسه منكسرا، ويقترب منا بخطى ثقيلة كأنه كان يفكر فيما يمكنه أن يقوله لنا. قالت أمي وقد ارتسمت على وجهها بعض ملامح سعادة هاربة.
– شفتك من شويه، لكن خفت نجي عندك يزعفوا عليّ. أنا مجرد خدام، كناس السجن.
– حتى أنا أخاف عليك. لكن قلبي محروق على أحمد؟ بيننا خبز وملح يا حميد ومحبة كبيرة. زوليخا ما زال صغيرة، وربي ما كتبها لك. راح تجد خير منها. هذا وقت صعب. ربي يجيب الخير. راك تشوف حالتنا مع حميمد. منعونا من الدخول.
اقترب منها أكثر وقال بصوت خافت وهو ينظر إلى كل الجهات.
– مش هذا هو غرضي، كنت حاب أقول لك عندي معلومات على عمي أحمد. أمرّ عليكم للبيت هذا المساء، بعد عملي.
– خير إن شاء الله؟ ما تخوفنيش يا وليدي. تقدر تقول له بلي سمينا وليده عزيز؟ عارفة راح يكون فرحان. ولو أنه يحب زوليخة بزاف.
– ما عليهش يا يمَّا، روحي الآن وأنا نشوف كيفاش نكمل ونجيكم في المساء باش ما يشوفني حتى أحد؟
تتأمل يمَّا عيني حميد طويلا في محاولة لقراءة ما تخفيان من سر خطير. عيناها كانتا تفتشان عن إجابة ما لخوفها الذي اعتراها من فكرة نقله إلى تلمسان؟
ينسحب حميد بسرعة، ويخيم الحزن على وجه أمي.
نركب على ظهر البغل، ونعود في صمت إلى خيمتنا.
كانت الرياح قوية، والمطر بدأ في السقوط. ولا شيء سوى نقرات حدوتي الحصان وهسيس المطر الذي كنت بالكاد أسمعه بعد أن وضعت أمي فوطتها على رأسي.



























Your Page Title