أثير-مكتب أثير في تونس
إعداد: محمد الهادي الجزيري
” أنا هالكٌ حتمًا
فما الداعي إلى تأجيل
موتي
جسدي يشيخُ
ومثله لغتي وصوتي
ذهبَ الذين أحبهم
وفقدتُ أسئلتي
ووقتي “
كبير آخر من عمالقة الأدب والفكر ..ترجّل يوم الاثنين 28 / 11 / 2022 ..فلا ركض ولا سباق ..، فقد قالها منذ مدّة لقد ” فقدت أسئلتي ووقتي “..كأنّه يستعجل الرحيل ..وقد رحل في سنّ 85 بعد صراع مرير مع المرض ، فكما قال صديقه المقرّب الشاعر محمد عبدالسلام منصور لـ” أثير” :
” الشاعر الكبير كان يعاني من عدة أمراض، لكنه كان يقاومها، حتى تمكنت منه، فتدهورت صحته قبل أسبوع، وارتفع السكري في الدم، ولم تنفع كل محاولات الأطباء في إيقاف هذا التدهور، حتى أسلم الروح إلى بارئها..”
قبل عام من وفاته رثى عبد العزيز المقالح نفسه بقصيدة (أعلنتُ يأسي)، ويقول في بعض أبياتها البليغة والمؤثرة :
” أنا سائرٌ وسط القبورِ
أفرُّ من صمتي
لصمتي
أبكي
فتضحكُ من بكائي
دورُ العبادةِ والملاهي
وأمّدُ كفي للسماء
تقولُ: رفقاً يا إلهي
الخلقُ – كل الخلق –
من بشرٍ، ومن طيـرٍ
ومن شجرٍ
تكاثر حزنْهم
واليأسُ يأخذهم ، صباحَ مساءَ
من آهٍـ…لآهـِ ”
ونحن إذ نوغل في هذا الرثاء المفتوح على الثناء على مسيرة استثنائية إبداعا وإنسانية ، لا يسعنا إلاّ الترحّم عليه ..محاولين أن نعدّد مناقب فقيد المشهد اليمني والعربي والعالمي ، لما اعتمل في شعره وكتاباته النثرية من أهداف سامية هدفت إلى النهوض بالكائن الإنساني أينما كان ..وإن كان اليمن مصدر إلهامه ..حزنه الشديد على مآله .. وفرحه بما كتبه عنه وإن أخفى ذلك ..فالشعراء الكبار هم هكذا دائما ..وعبد العزيز المقالح واحد من الأسماء التي تبقى عالقة في ذاكرة التاريخ الأدبي والإنساني …
من قصيدة الأسئلة ..، نقرأ ما يلي :
” هل أخطأتُ طريقي
حين اخترتُ الحرفَ فضاءً وجناحا
أُطلق قلبي في ملكوت الذكرى
أبحث في نفقٍ لا ضوءَ بهِ
عن برقٍ مسجونٍ يرسم لليل صباحا ؟
هل أخطأتُ طريقي
فانسكب الحرفُ على دربي شوكاً وجراحا ”
ولد عبد العزيز المقالح في سنة 1937 في قرية المقالح بمحافظة آب ، وقد انطلق في صياغة الشعر وترويض المفردات وهو في الرابعة عشر، وتعلّم على أيدي مجموعة من العلماء والأدباء في مدينة صنعاء ، وتخرّج من دار المعلمين عام 1960 ، وواصل تحصيله العلمي حتى حصل على الشهادة الجامعية عام 1960 وفي عام 1973 حصل على درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب بجامعة عين شمس، ثم درجة الدكتوراه عام 1977 من نفس الجامعة ، وترقى إلى الأستاذية عام 1987…، وترأس مراكز وجامعات شتّى ، ونال عضويات عديدة ..مثل مجمع اللغة العربية بالقاهرة ودمشق كما كان عضوا مؤسسا للأكاديمية الدولية للشعر بإيطاليا ، وقد تميزت كتابته بشيء من الكلاسيكية، لكنها سرعان ما انفتحت على الحداثة…..
ثمّة غضب يفور في الدم والشرايين ..فيسيح في الكلام ، وهذا ما أحسست به أثناء قراءة قصيدة ” في انتظار عودة الشهيد ” ..، إنّه صوت الحقّ والغيرة والغضب الحرّ ..لنستمع إلى عبد العزيز المقالح وهو ينوح ويوصي النساء :
” لا تنتظرن ..
قد يطول الليل قبل ان يعود من رحلته النائية الشهيد
جف الغناء في الذرى
وضاع عند السفح
رجع البوق والنشيد
فامسحن دمعة تحدرت على تمائم الأطفال
وأبصقن في وجوه .. في عمائم الرجال
الواقفين في انتظار عودة الشهيد
ليغسل الديار من أحزانها
لكي يموت من جديد ”
إثر وفاته كتب الأستاذ حمود سالم السيابي كلمة دامعة ومؤثرة ..، نقتطف منها هذا المقطع:
” …وبينما اليمن يتطاحن ترجَّل الشاعر واللغوي والأكاديمي والأديب اليمني الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح من صهوة ” زاد الراكب ” في هذا اليوم الصنعاني الرمادي ، ودمعه المرّ يتيبّس في عينيه لكي لا يبكي ولكي لا يكمل مع اليمن آخر الشوط ::
” مات الشعر والكأسُ انكسر
لم يعد في العصر للظمآن ماء
لم يعد في ليلنا الوحش سمر
والسماء
ما عاد شيء في السماء
يُلهمُ الشعر قلوب الشعراء
أجدب الغيمُ
على افاقنا جفّ المطر ”
مؤلفاته الشعرية والنثرية جمّة ..ومع ذلك نخصّص لها جانبا ونكتفي ببعضها ، فقد نشر أول مجموعاته الشعرية سنة 1971 تحت عنوان : ” لا بدّ من صنعاء ” ، وأردفه بعديد العناوين الأخرى ، نذكر منها : رسالة إلى سيف ذي يزن ، وأبجدية الروح ، وكتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان ، وبالقرب من حدائق طاغور وغيرها ، أمّا الكتب النقدية وذات مواضيع أخرى فيكفي أن نذكر ” قراءة في أدب اليمن المعاصر ، وذاكرة المعاني وغيرها من العناوين التي حفت بها المكتبة العربية …
ونعاه اتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين في بيان قائلا إن “اليمن والأمة العربية والعالم خسروا بوفاة شاعر اليمن الكبير المقالح واحدا من أهم الأسماء الشعرية التي مثلت إضافة ورصيدا لقصيدة التفعيلة والنقد العربي الحديث، علاوة على التعليم الأكاديمي الذي كان المقالح من أبرز أعلامه ”
وأضاف البيان “ما تمتعت به قصيدته الحديثة ومقاله الرصين من سمات عززت من مكانته وكرست حضوره الإبداعي والإنساني اسما كبيرا وعلما عظيما من أعلام القصيدة العربية “
تحصّل على عدة جوائز ووقع تكرمه في أكثر من مناسبة ، ومن ضمن النجاحات التي حقّقها نذكر منها :
فاز بجائزة لوتس للأدب عام 1986 ، وتحصّل على وسام الفنون والآداب – عدن سنة 1980 ، وأضاف إليه وسام الفنون والآداب – صنعاء سنة 1982 ، ونال جائزة جائزة الثقافة العربية سنة 2002 بباريس ، كما فاز بجائزة الفارس من الدرجة الأولى في الآداب والفنون بفرنسا سنة 2003 ، وتحصّل على جائزة الثقافة العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 2004 ، وكلّل كلّ هذا الإنجاز بحصوله على جائزة الشعر من مؤسسة سلطان بن علي العويس سنة 2010 …
عُرف عنه كتابته قصيدة ” إن يحرمونا يا حبيب الغرام ” التي غنّاها الفنّان اليمني أحمد فتحي ، ويقول مطلعها :
” إن يحرمونا يا حبيب الغـرام
ويجعلوا فقري لوصلك حرام
فإن حبي دائما لا يليـن
والقلب لا يسلى ولا يستكين
إلا بوصلك يا مليح الجبيـن
لو يزرعوا عمري بنار الشقاء
والمهم انت يا أحوم
لا تصدق فتندم
كلنا في الهوى دم
كلنا اولاد ادم ”
رحم الله فقيدنا وجازاه خيرا على ما قدّمه من حبّ وجهد للنهوض بالإنسان أينما وُجد ، والله يصبّر رفاقه وأهله على فراقه ، علما أنّي أحسست بمدى الألم الذي أحسّ به صديقي الوفيّ الأستاذ عبد الرزاق الربيعي ..لمّا علم بنبأ وفاة رفيق دربه المرحوم عبد العزيز المقالح ، لذا اقتطعنا هذه الفقرة من مقالته المنشورة عشية الوفاة :
” قال أ. د عبدالكريم يحيى راصع الوزير السابق ” فقدنا أستاذنا الفاضل والقدير وقدوتنا الذي تتلمذ علي يديه مئات الآلاف من الدارسين والباحثين في اليمن والعالم العربي والإسلامي وبرحيله خسرت اليمن علمًا كبيرًا من أعلامها الكبار وشاعرها الكبير فيلسوف ومفكر الثورة اليمنية بوابة اليمن الثقافية كان له الفضل الكبير في تطوير جامعة صنعاء وكل الجامعات اليمنية، أرسل آلاف الدارسين إلى الخارج للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه ليعودوا لليمن لنهضة الجامعات اليمنية وتطوير المجتمع ثقافيًا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيًا ”
وداعا شاعرنا ورائينا ..، أنت من قلت ..وسيتحقّق وعدك
“لا بد من صنعاء وإن طال السفر” وستكون برغم الغبار المنتشر …
يوماً تغنى فى منافينا القدر
لابد من صنعاء وإن طال السفر
لابد منها .. حبنا أشواقها
تذوى حوالينا إلى أين المفر
إنَّا حملنا حزنها وجراحها
تحت الجفون فأورقت وزكا الثمر
وبكل مقهىً قد شربنا دمعها
لله ما أحلى الدموع وما أمر
وعلى المواويل الحزينة كم بكت
أعماقنا وتمزقت فوق الوتر
هى لحن غربتنا ولون حديثنا
وصلاتنا عند المسرة والضجر
مهما تراما الليل فوق جبالها
وطغى وأقعى فى شوارعها الخطر
وتسمر القيد القديم بساقها
جرحاً بوجه الشمس فى عين القمر
سيمزق الاعصار ظلمة يومها
ويلفها بحنانه صبح أغر
هو ذا يلملمنا من الغابات من
ليل الموانئ من محطات البشر
ليعيدنا لك يا مدينتنا وفى
أفواهنا قبلا وفى الأيدي الزهر
صنعاء وإن أغفت على أحزانها
حيناً وطال بها التبلد والخدر
سيثور في وجه الظلام صباحها
حيناً ويغسل جدبها يوما مطر