أثير- أيهم محمود العبّاد، شاعر عراقي
تعودت في الأعوام القليلة الأخيرة أن أقرأ ما يخدم النص الشعري ويغذيه بروافد جديدة أكثر مما أقرأ النص الشعري ذاته، وقد بنيت إجرائي هذا على سببين رئيسين، أولهما: انحسار المنجز الشعري العربي مؤخراً على المستوى النوعي لا الكمي، وثانيهما وهو الأهم: الحفاظ على هوية نصي الخاصة بمعزل عن دائرة التأثر، فالشاعر الواعي، مثلما يعلم الكثيرون، مصاب بما أسماه هارولد بلوم “قلق التأثر”. وحينما قرأت مجموعة “إنخدوانا” للشاعرة أنسام المعروف، توقفت عند عتبة العنوان المفضية إلى أسئلة عديدة يتجلى في مطلعها سؤال التأنيث، فعنوان المجموعة المختزل في كلمة واحدة مستوحاة من اسم جدتنا الخالدة “إنخدوانا” كاهنة الشعر العراقية الأولى وأول من نظم الشعر في العالم القديم، أشبه ما يكون بمظلة تؤوي بين يديها أكثر من 60 عنواناً فرعياً مؤنثاً من عناوين القصائد داخل المجموعة، وهذا إيحاء كافٍ يمكن للقارئ العادي من خلاله تلمس الجو العاطفي الذي كتبت القصائد في أثنائه.
ومن الطبيعي جداً أن تنتبه شاعرتنا أنسام المعروف، إلى فكرة الجذور الأولى، فهي ابنة بيئة عراقية خصبة ولد فيها الشعر من طين عراقي خالص وترعرع في ظلال المعابد الرافدينية حينما كان الكهنة السومريون ينسجون من اللغة كلاماً موزوناً مقفى يرددونه في ابتهالاتهم، ومن يقرأ “مقدمة في أدب العراق القديم” بخط العلامة الراحل طه باقر يتعرف بدقة على نماذج مشرقة وناضجة من مختلف فنون الشعر وأشكاله وصياغاته، حتى تلك المنمنمات الصغيرة التي كانت المرأة العراقية في العصور القديمة تتلوها على مسامع وليدها لينام آمناً مطمئناً، وهذه إحدى وظائف الشعر وفضائله وجمالياته.
أعود إلى مجموعة “إنخدوانا” مرة أخرى، وأتأمل معكم ما تقول شاعرتنا في نص بعنوان “أنا”:
في نظرة أحتفظ بها حين أستدير
كي لا يراني أحد
بين نقاط الصمت في أشعاري
ستجد إن بحثت .. حقيقتي أنا !
نلاحظ العلاقة المشيمية المباشرة بين العنوان “أنا” بوصفه عتبة دالة إلى النص ومفضية إلى أسراره برغم البساطة الواضحة في الجمل المكون منها، فالشاعرة تنطلق من رؤية ذاتية أنثوية تشكل عبرها عالمها الخاص، وتبعث إلى الآخر (القارئ) مذكراً كان أم مؤثناً، رسالة غير مشفرة مفتاحها أداة الشرط (إن) في السطر الأخير، ففعل الاكتشاف، بالنسبة للقارئ، مرهون بحتمية البحث بين سطور المجموعة لا القصيدة وحدها، ومن دون عناء البحث لن يعثر القارئ على حقيقة الشاعرة وذاتها المحفوفة بالأسرار.
