د.رجب العويسي يكتب: قابوس بن سعيد؛ أيّها الخالد فينا

د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة

العاشر من يناير من عام 2020، يوم عمان الحزين، ذلكم التاريخ الذي لن ينساه أبناء وطني، بما حمله من مآس الفقد، ومواجع الغربة، وألم الفراق الأبدي، وأسكبه من دموع الحزن، وعظيم الأسى، في يوم عصيب، تغيرت فيه الحياة، وذهلت من هوله الأنفس، وفجعت من وقعه الأجساد، كل شيء فيه تحول على غير عادته، الحياة تغيرت، الأفكار تبعثرت، الكلمات رفعت، فواجع ونكبات، غصة في النفس، ضيق في الصدر، فاجعة أدمت الروح، وأضعفت الحال، كل شيء أصبح مخيفا، الحزن يخيّم على أرجاء وطني من شماله إلى جنوبه، القلق، الريح، المطر، الشارع، الألم، الصراخ، البكاء، الدهشة، الحزن، الاستغراب، الدعاء، كل شيء لم يعد كما كان، دموع منهمرة، قلوب منفطرة، عالم مخيف وهواجس مظلمة، وخيالات مرعبة، ماذا نفعل، إلى أين نتجه، مع من نتحدث، من نواسي، الكل يصرخ، يبكي، جاثم، هلع، مندهش، مترقب، منتظر، الكل يتقاسم حالة الذعر والارتباك، رجالا ونساء، شيبا وشبابا، كبارا وصغارا، ما أصعبه من موقف، وما أشد قسوته على النفس، وما أضيق العيش أن تفارق من أحببت وتودع من عشقت؟ وما أشده وقعا أن يكون من فارقت وودعت، من أحبته النفوس، وعشقته القلوب، وتماهت في الروح حبا وجلالا وإجلالا، أعز الرجال وأنقاهم، حبيب الشعب، الملك المبجل المعظم، الخالد فينا، العظيم في نفوسنا، المتربع على عرش قلوبنا، السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه.

وما أسرع مضي الأيام وتعاقب الأعوام، ليبقى هذا الحديث المفجع، ذاكرة محزنة تطل علينا كل عام، بل ولعمر الحق ذاكرة يومية لم تغب عن أفكارنا ولم تفت عن بالنا، ليطل علينا العاشر من يناير من عام 2023 ونحن نعيش الذكرى الثالثة لوفاة مولانا السلطان قابوس بن سعيد، في ذاكرة رحيل محزنة، وفاجعة فقد مؤلمة،‏‎ لن تكون نهاية حدادنا فيه، فهو خالدٌ فينا، حيٌّ في قلوبنا، لن تسلُبه السنون من وجداننا، ولن يُسقط التاريخ يوم مولده ويوم وفاته من ذاكرتنا، لأنه المعظم في مداركنا، يعيش ضمائرنا، يهمس خلجاتنا، يستنطق أفكارنا، يوجه آمالنا، يعيد بمآثره إنتاج أحلامنا، يحدثنا في كل وقت، يجدد فينا العطاء، وينسج في أوردتنا خيوط الأمل، ويرسم لنا في عمان وسلطانها المعظم أشعة النور، وتجدد النهضة، ومولد الوفاء، وعظمة الإنجاز، وصدق الإيمان، نقرأ فيه ثوابتنا، مبادئنا، أخلاقنا، قيمنا، سلامنا، صفاء أرواحنا، حبنا، صدقنا ، ثباتنا على النهج، ومنهجنا في العمل، وطريقنا لصناعة الحياة، ومسارنا في البناء والتطوير، نقتبس منه نورا نسير به في العالمين ونحقق من خلاله ما أراده لبلادنا من تقدم وازدها، طريق الأمل والإرادة والعزيمة الذي بدد أمامنا الأحزان، وأزال عن دروبنا الأشواك، كيف لا وهو الذي أحب عمان، وأخلص لها، وعمل من أجل شعبه، وجعل سعادة عمان وتقدمها منبع سعادته وسر سروره وراحته، وجد في حب عمان وشعب عمان الصحة والعافية والعلاج والشفاء، ملامح عظيمة سطرتها سنوات النهضة المباركة كأروع ما يكون نماذج واقعية وتجارب عملية وسلوك يومي ممارس وعمل متصل ودؤوب وأدوات عمل مبتكرة واتصالات وتواصل مع الذات والآخر وثقافة حوار ومشاركة وعمل متكامل، ومنهج واضح في البناء والتطوير والتنمية والاستقرار كانت خير مثال وأعظم نموذج.

لقد كان السلطان قابوس بن سعيد نموذجا حضاريا للإنسانية، وأسطورة استثنائية في التاريخ المعاصر، وقائدًا عظيما امتلك ميكانيزما القيادة الإستراتيجية في بناء الدولة والإنسان وصناعة مجد الأوطان، وأمة رسمت لأمتها خارطة طريق لن تضيع إن أخلصت فيها، وأحسنت إليها، وعملت بها، وصدقت في كل خطواتها، رحل رحيله الأبدي، مطمئن البال، نقي السيرة، صافي السريرة، عظيم الأمل بالله، والثقة في قضائه، وقد رسم لكل شيء طريقه، ووضع كل شيء في مساره، في سلاسة وأريحية، واستقرار وسلام، وأمن وأمان، وهدوء واطمئنان، الأمور واضحة والطريق معبد، والمسار يتجه في خط مستقيم، خطوة تليها خطوة، لا تتقدم عنها غيرها، ولا تتداخل مع ما بعدها أو سابقتها، وكأن لسان حاله يقول: لقد تركت لكم عمان الأمان، كل شيء فيها يمضي إلى استقرار، كونوا لها خير الزاد، وأفضل العباد.

ومع كل الأحداث التي ارتبطت بفاجعة موت السلطان قابوس بن سعيد، وما تركته من جرح عميق، وغصة غائرة في النفس، ظلت حكمة السلطان قابوس بن سعيد وعبقريته الخالدة حاضرة حتى بعد موته، فقد حسمت الأمر، ورسمت النهج، وعظّمت البناء، وقطعت دابر الخلاف والشك، في حدس بالمستقبل يرسم الطريق، وفراسة تبرز سير العمل، وسيناريوهات رسم السلطان الراحل خطواتها وتفاصيلها وحدد معالمها ووقف على كل دقائقها، وكأن ما يرسمه لمجلس الدفاع، محاكاة عملية للواقع المحتوم الذي آمن به عقيدة ومبدأ، ونهجا وعملا، وصدقا وعدلا، لتفصح أحداث العاشر من يناير عن دروس ملهمة واختبارات عميقة، وسيناريوهات معقدة، أثبتت قدرة الأمة العمانية على تجاوزها والنجاح فيها، وأعطت للعالم أجمع دروسا عظيمة في إدارة الأزمات، وأفصحت عن عمق حب السلطان قابوس بن سعيد لبلده عمان وشعبه الوفي، وعكست نموذجا إنسانيا للعالم أجمع، جسّد عظمة هذا السلطان الخالد في وجدان العمانيين والعالم وما قدمه من أجل عمان والإنسانية جمعاء، حتى بكته الأرض والسماء، ليكون درسا لقادة العالم أجمع في رسالتهم وإنسانيتهم والتصاقهم بشعوبهم، ثم هي شواهد إثبات جاهزية العمانيين وتعاطيهم مع الأزمات وحكمتهم في إدارة الأحداث؛ حينها أدرك العالم أن الذي قاد هذا الوطن بسياسته الحكيمة ورؤيته النافذة وتحمله مشقة بناء عمان من الصفر حتى أصبحت ملء السمع والبصر وحضن وحصن المواطن العماني وكل من يعيش فيها أو يزورها؛ واستطاع بحنكته أن يتعاطى مع كل التناقضات الحاصلة في العالم في علاقات صداقة جمعت بين الأشقاء والأصدقاء والفرقاء؛ قادر على أن يمنح الأمل للحياة، وتجنيب بلاده كل مسببات الخلاف والفرقة والنزاع والشقاق، وهذا السر الذي جعل من هذه النهضة مفخرة أبناء عمان بل ومفخرة العالم العربي وحسن تقدير العالم أجمع لهذه الشخصية الإنسانية العالمية المهيبة.

لقد ترجل فارس النهضة قابوس بن سعيد طيب الله ثراه عن جواد الحياة، لتبقى منجزاته مآثر خالدة، وشواهد حية على عظمة ما تحقق على أرض عمان في عهده الميمون، فإن الذي تحقق أقوى وأعلى صوتا من أية أقوال، وأن الذي أُنجز أروع وأصدق من أي كلام وإذا كان قابوس بن سعيد قد رحل عن دنيانا، فارقنا صوته، وابتسامته، وموكبه، وتلويحة يده، وافتقدته أنظارنا من شاشات التلفاز، ولقاءات الملوك ورعاية الاستعراضات العسكرية، فهو لم يرحل من ذاكرتنا، ولم يغب ذكره عن ألسنتنا، فإن الأمل الذي جاء به سلطان عمان الراحل ما زال يغذي أرواحنا بنور اليقين والثقة والصبر والتضحية، وأودع فينا قوة الإرادة وعزيمة المواجهة والإصرار والتحدي وإنتاج القوة، نبراسا يضيء طريقنا لبناء عمان المستقبل، ويجدد فينا حب عمان وسلطانها المجدد، جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم خير ما حفظ به تجدد النهضة واستمرارية البناء.

Your Page Title