فضاءات

د.رجب العويسي يكتب: إنتاج المتعلم اقتصاديا؛ أولوية وطنية تضع التعليم في المحك

أثير- د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة

تشكل التوجيهات والأوامر والخطابات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله حول المواءمة وسوق العمل والعمل الحر والتعليم المهني والفني والتقني والتنويع في المسارات والتخصصات الأكاديمية، وما نتج عنها من مبادرات الاستدامة الاقتصادية والبرنامج الوطني للتشغيل وغيرها خيارا استراتيجيا وطنيا لتعظيم دور التعليم في انتاج المتعلم اقتصاديا، بما يشكل هذا التوجه من أولوية وطنية واستحقاق يجب ان تضع له مؤسسات الدولة المعنية قواعد عمل وأطر وفلسفة أداء وإجراءات تنفيذ واضحة.

والحديث عن أهمية هذا التوجه الوطني اليوم لم يعد حالة طارئة مرتبطة بالظروف الاقتصادية فحسب، بل أنه يعبر عن الحالة العمانية ذاتها ورؤيتها المتعاظم، وما حملته في محاورها وأهدافها الاستراتيجية من موجهات للعمل الوطني المعزز لمنظومة اقتصادية واعدة تحقق التنوع والاستدامة، واستثمار الفرص، والتثمير في الموارد، وإنتاج الحلول والبدائل والخيارات الوطنية المعززة لمسار التنويع الاقتصادي والاستدامة المالية ، وهو أمر لا يتحقق إلا وفق خطوات واضحة، ومسارات مضبوطة، وأدوات مقننة ، وعمليات محددة، تضع المتعلم في قائمة الأولويات، ويصبح إنتاجه اقتصاديا عبر تعزيز الملكات والممكنات والمهارات الاقتصادية الرقمية والناعمة لديه الطريق الآمن لتحقيق مستهدفات رؤية عمان 2040، فإن المتتبع لمرتكزات الرؤية في وجود *مجتمع إنسانه مبدع* معتز بهويته، مبتكر ومنافس عالميا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام؛ واقتصاد بنيته تنافسية، منتج ومتنوع، يقوم على الابتكار وتكامل الأدوار وتكافؤ الفرص، يسيّره القطاع الخاص، ويحقق تنمية شاملة مستدامة، والتي يتم تنفيذها عبر محاور التعليم والتعلم والبحث العلمي والقدرات الوطنية، وسوق العمل والتشغيل، والتنويع الاقتصادي والاستدامة المالية، والقطاع الخاص والاستثمار، ثم المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية؛ يدرك حجم التغيير المطلوب في بناء الرأسمال البشري الاجتماعي الوطني وإعادة انتاجه اقتصاديا؛ وتوجيه الجهود الوطنية نحو تعزيز قدراته وبناء مهاراته وصقل مواهبه في الجوانب المرتبطة بالتشغيل، وثقافة العمل ، وقطاع العمل الحر، وانخراط الشباب العماني في القطاعات الحيوية والاستراتيجية الواعدة والاستثمار فيها، واثبات بصمة حضور له فيها سواء في القطاع الخاص والأهلي أو كذلك قطاع الأعمال الحرة، وأيضا القطاع الحكومي في المجالات الاقتصادية الواعدة في الطاقة المتجددة والنظيفة واللوجستيات والتقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي ومتطلبات الثورة الصناعية الرابعة .

ومع توفر الإرادة الاستراتيجية والسياسية الوطنية الداعمة لهذا التوجه التي يقودها جلالة السلطان المعظم، وتوجيهات جلالته السديدة، التي جاء تجسيدا لما تشهده سلطنة عمان من توجهات اقتصادية كبرى، وفرص استثمارية عملاقة، وبيئات أعمال عالمية تفتح مجالا رحبا للمستمرين والشركات الكبرى حول العالم، وما يتم من مراجعات متسارعة للقوانين والتشريعات وأنظمة العمل، لضمان المزيد من الحوافز والتسهيلات، والتبسيط في الإجراءات المالية والإدارية للمستثمرين العالميين، ورفع مساهمة بنك التنمية العماني في تمويل الأنشطة التنموية وإيقاف العمل بضريبة الخصم من المنبع في بورصة مسقط، والذي من شأنه ان يسهم في فتح آفاق أوسع للاستثمارات الأجنبية ويعزز من نشاط الحركة الاقتصادية؛ محطة استراتيجية في الانتقال بالتعليم إلى مرحلة الإنتاجية الاقتصادية ودوره في رسم ملامح اقتصاد المستقبل عبر انتاج المتعلمين ، محطة للبدء الفعلي في الانتقال إلى مرحلة التطبيق، والنزول إلى الميدان، وعبر تبني البرامج والخطط التعليمية والتدريبية والمساقات التدريسية والمناهج والأنشطة والمحتوى الذي يعزز هذا المسار، فبناء المتعلم اقتصاديا يجب أن يبدأ من بيئات التعلم والمدارس، بما توفره من مناهج تعليمية ذات صبغة مهنية واقتصادية، وتوفير مساقات تدريبية متخصصة تتجه إلى التطبيقات العملية وأساليب المحاكاة والتجارب، وتعريض المتعلم لبرامج اقتصادية من واقع العمل في هذه القطاعات، بحيث تتيح للمتعلمين فرص امتلاك وتعلم وإتقان متطلبات نجاحه اقتصاديا، من حيث إدارة المشاريع الاحترافية، وامتلاك المعلومات الاقتصادية التي يحتاجها للبدء في تنفيذ مشروعه الاقتصادي، وكيف يستفيد من المهارات المتعلمة عمليا؟، وكيف يوظف المهارات والجاهزية لديه في مواجهة مخاطر الإفلاس، ثم امتلاكه لبرامج التسويق الاقتصادي والترويج عبر المنصات الاجتماعية، وقدرته على تطوير مهاراته الاقتصادية في دراسة الجدوى، وكسب ثقة المستهلكين، وتوسيع خيارات الأنشطة التجارية والصناعية والاقتصادية الأخرى، وبالتالي ما يعنيه ذلك اليوم من الحاجة إلى إعادة هيكلة بنية التعليم بشكل يتناغم مع هذا التوجه الوطني ويعكس الهوية التعليمية القادمة لسلطنة عمان، وهي هوية تتجه إلى تحقيق معادلة التوازن في البعد الاقتصادي وبناء ثقافة اقتصادية متكاملة في حياة المتعلم ومهاراته وقدراته ومعلوماته، بشكل لا يلغي البعد التاريخي والثقافي ممثلا لقيمه ومبادئه وأخلاقه والثوابت والهوية الوطنية التي بدورها تشكل حافزا وداعما له نحو إعادة انتاج ذاته وتطوير مهاراته وخلق روح التغيير لديه، وتعظيم فرص الابداع والابتكار والتجديد في قناعاته، وإضفاء مسارات الحيوية والمهنية والكفاءة في أدائه.

أخيرا فإن الوقت لا يستدعي التأجيل، والحسم في المسألة خير طريق لضمان الوصول إلى الهدف، والجدية والإرادة والعزيمة والإيمان بالمبدأ واستشعار المسؤولية خير من يمنح هذا التوجه استحقاقات النجاح، إننا بحاجة اليوم إلى أن نرَ من مؤسسات التعليم والاقتصاد والتشغيل والتدريب ممارسات أكثر التصاقا بتحقيق هذا الخيار، والذي نعتقد بأنه يجب أن يتجه بأسرع ما يمكن نحو وضع التوجيهات والأوامر السامية لجلالة السلطان المعظم المرتبطة بمجالات المواءمة والمهارات والتنويع في مسارات التعليم، والتعليم المهني والتقني، وثقافة العمل ، والعمل الحر، موضع التنفيذ المطلق لها في مناهج التعليم، والخطة الدراسية، والمساقات التدريسية، وأساليب التعليم والتعلم، وتوفير التطبيقات العملية لها في المدارس والجامعات ومؤسسات التعليم العالي الأخرى بدون استثناء، فإن الإسراع في هذا الجانب مع وجود إطار عمل وطني واضح يحقق مستهدفات رؤية عمان 2040 التي أشرنا إليه سلفا، أولوية وطنية يجب أن تدرك، وعندها يصبح إنتاج المتعلم اقتصادية معادلة القوة في مسيرة التعليم والاقتصاد، والحلقة الأقوى في ميدان المنافسة وتعظيم الإنتاجية الوطنية، وايجاد حلول لمشكلات التوظيف والباحثين عن عمل والمسرحين لما يمكن أن يولّده التكوين الاقتصادي المتكامل والمعمق لشخصية المتعلم، من تحولات في مسيرة التنمية الاقتصادية وصناعة الكفاءة العمانية، وإنتاج القوة الوطنية الواعدة .

Your Page Title