أثير – الروائي الأردني جلال برجس
بما أن مرحلة ما بعد الحداثة قد جعلت من الفرد مركزًا للفعل الإنساني -كالثقافي- بدلًا من الجماعة التي عادة ما تأتي أفعالها نتيجة لمستويات الجدل، وحوار الأفكار، فقد وجد الإنسان نفسه هذه الأيام في مواجهة مع ذاته، مصاباً بحالة جديدة من اغتراب مرده إحساسه بفشل تلك الطروحات التي كانت سابقاً تنظر للفعل الفردي بمعزل عن الفعل الجماعي، وتقدم الروافع الدعائية لتلك الطروحات إغراءات للانحياز إلى الفردية.
إن وقوف الإنسان أمام فشل الفردية كخطوة بناءة من وجهة نظر مروجيها، خلق منطقة فارغة ما بين الخيارين، بحيث بات يمكن له أن يقرر سمة المرحلة القادمة، ويشتغل على إبرازها بأدوات التغيير. لكن ظهور مرحلة (كوفيد 19) أعادت الإنسان إلى المربع الأول؛ إذ أنه بعد مضيّ أسبوع على عزلة الإنسان في منزله تفاديًا لشرور (كورونا) أخذنا نشهد ظهور نصوصاً تأمليّة على وسائل (التواصل الاجتماعي) لكُتّاب مغمورين وكُتّاب مكرَّسين للحال التي يعيشونها وراء أبواب منازلهم وأمام شاشات التلفاز مراقبين أخبار الوباء، بل حتى ظهرت نصوص لقرّاء لا يدرجون أنفسهم في خانة الكتّاب. أمّا على صعيد القرّاء فقد التفتوا إلى روايات الوباء على سبيل المثل لا الحصر: (دفتر أحوال عام الطاعون) للإنجليزي “دانييل ديفو”، و(الحب في زمن الكوليرا) لـ”ماركيز”، و(الطاعون) لـ”ألبير كامو”، و)استئصال) للروائي المغربي “الطاهر بن جلون”، و(أيبولا 76) للروائي السوداني “أمير تاج السر”. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ظهرت أصوات روائيّة تنوي الكتابة عن مرحلة كورونا على الرغم من عدم انقضائها، بل حتى مع مضيّ أشهر ظهر على الصَّعيد العربي عدد من الروايات أخذت موضوعاتها من هذه المنطقة التي جوبهت بتحذير من تسريد الـ”كورونا” في هذه المرحلة؛ لأنَّ هذا الأمر فيه مغامرة لأسباب كثيرة؛ أهمّها أنَّ الشرط الزمني لم يتحقَّق بعد إزاء هذه المسألة، لكنَّ كل ما سلف ذكره يُعدُّ إشارات مهمّة إلى طبيعة النمط الروائي القادم.
يستقي الرِّوائي مادته لخلق روايته من ثلاث جهات: الماضي، والحاضر والمستقبل عبْر أدواته التي أنتجتها خبرته وموهبته، فإمّا نقرأ له رواية تاريخيّة، وإمّا رواية تُعاين الواقع بحسب أدواته، وإمّا رواية (دستوبيا)، لكن في زمن كورونا، وحيث وجد الروائي نفسه مثله مثل سائر البشر يركن لهذا الشكل الغريب من أشكال العزلة، فإنه وبالتأكيد سينحاز إلى تأمُّل أبعاد الكون: (نفسه، مكانه، وزمانه) وهذا التأمُّل بالطبع سيفضي إلى سؤال المصير الذي لن يؤدّي إلى إجابة إلّا على المدى الطويل، وهذا عائد إلى طبيعة المرحلة وتعقيداتها.
إنَّ مسألة التَّباعد ستحفر عميقًا في نفس الكاتب وذهنيّته، وسيجد نفسه -بوعي غير مباشر- قبالة مُساءلة نفسه أوّلًا، مساءلة بالطبع تقود إلى الجديد الباحث عن إجابة والمتأمِّل بمستوى غير نمطي، سيتأمَّل طفولته، وشبابه، وكهولته، وحتى سيؤدّي به هذا إلى تأمُّل فكرة الموت التي ازداد التفكير بها والفيروس يتربَّص بكل واحد على وجه هذه البسيطة.
ربَّما تأتي التغييرات على الرِّواية من جهتين، وسيكون للتغيير شكلان؛ حيث سيذهب النَّمط القادم إلى تأمُّل اللّحظة الرّاهنة واللّحظة المستقبليّة بوعي سردي مفتوح ينسف العناصر الروائيّة التي كانت سائدة، لكن سيقابل هذا الشكل الروائي المرتقب شكل روائي رقمي يتَّكئ على الرُّؤية العالميّة في الذِّهاب بالإنسان إلى أقصى حدود الرَّقمنة، ويأخذ شرعيّته منها؛ فقد هيأت طبيعة المرحلة الإنسان إلى تغييرات من هذا النوع؛ إذْ ارتفعت أسهم الكتاب الإلكتروني والتسوُّق عبر الإنترنت وتسديد الفواتير، والمعاملات المالية الإلكترونية، وتراجَعَ مقابل ذلك الإقبال على الكتاب الورقي بنسبة تضاف إلى النِّسب السابقة في التناقص المستمرّ لعدد المقتنين له. يعتقد كثيرون أنَّ الحال سيعود إلى ما كان عليه قبل كورونا، لكنَّني أرى أنَّ الإنسان كما يعيش حربًا في هذه المرحلة، فإنه سيخوض حربًا قادمة، للآن ليس واضحًا مَن سينتصر فيها. ومن هنا أرى أنَّ الشكل السردي للرِّواية سيكون حرًّا وربَّما يُبنى على شيء من شكل رواية الحداثة التي نسفت ما قبلها من أشكال كلاسيكية، وهذا بالطبع قادم من رفض شكل مرحلة كورونا بكل ما خلّفته على الروائي الذي عانى عزلة قسرية لم تكن مناسبة لا للكتابة ولا للقراءة؛ لأنَّ شرط الاستقرار لم يتوفَّر، بل جوبِه بحالة قصوى من القلق، وحينما نقول: “شكلًا حرًّا” فهذا يعني الابتعاد المتعمَّد عن الالتزام بشكل الرِّواية سابقًا، لأنَّ الأشكال السابقة لا تخدم التوجُّه الروائي الجديد، فهو تأملي يغوص بالذات الإنسانيّة قبالة عالم هدَّدها بشراسة، ليس على صعيد ما تمخَّض عن فيروس كورونا فقط، بل عمّا تمخَّض عن التحوُّلات العالميّة أيضًا، والتي شيَّأت الإنسان وراحت تسعى إلى تصفيته من كثير من العناصر التي لا تتوافق مع متطلبات السوق، وهذا الغوص يُراد له لغة تقع في المنطقة الوسطى بين لحظة الدراما التأمليّة ولحظة الشِّعر، فبرأيي لن يصبح للُّغة الواصفة للمكان وللشكل الخارجي للشخصيات أيّ نفع أمام هذه اللغة التي تغور عميقًا في مجاهيل الإنسان، وهذا بالطبع سيقرِّبها من علم النفس وخاصة (كارل غوستاف يونغ) الذي تتطابق طروحاته فيما يخص الذاكرة الجمعيّة مع ما أفرزته مرحلة كورونا من تساؤلات وحيرة بشريّة أمام التكهُّنات بمصير العالم الذي تتعالى حياله آراء تتعلق برقمنته، وبضرورة تصعيد العلم والابتكارات الجينيّة بمعزل عن الرفوضات التي تتكئ إمّا على رؤى دينيّة أو إنسانيّة.
هنا يمكنني القول إنَّ هذا التيار الروائي القادم ربما يأخذ من أساليب وشكل ولغة روايات الحداثة وروايات ما بعد الحداثة بعض العناصر، فقد نجد روايات فيها جانب من تيار الوعي، والحساسية الجديدة، وتلك الروايات التي خرجت على كل عناصر الرِّواية الكلاسيكية.
أرى أن فوز (آني أيرنو) بجائزة نوبل لا ينفصل عن سمة المرحلة السردية القادمة، والتي ستترسخ فيها الفردية في الرواية، وبالتالي ستخسر عنصر الصراع الذي في الأصل قام عليه هذا الفن الأدبي المهم.