مسقط-أثير
تتميز سلطنة عمان بتراثها العريق، وآثارها الشاهدة على ما حبا الله تعالى به الإنسان على أرضها من فكر إبداعي، استطاع به تذليل هذه الأرض، وتسخيرها لمنفعته، متغلبا على عقباتها بما أوتي من قدرات وإمكانات، ومن أبرز الشواهد على ذلك القلاع الشامخة، والحصون المنيعة، والأبراج العالية، والحارات التي عاش فيها الإنسان العماني، ومنها الأفلاج، التي تنقل المياه من مسافات بعيدة، كي تسقي مزارعهم، وتروي بساتينهم، كما جعلوها تتدفق تحت قلاعهم وحصونهم وقصورهم، وبين حاراتهم ليستفيدوا من تلك المياه العذبة.
لكن على الرغم من كل ذلك فإن الجانب الهندسي في التراث المعماري العماني لم ينل عنايته المستحقة؛ يقول الباحث الكبير الشيخ سلطان بن مبارك الشيباني في بحثه القيم: (الإِنْتَاج العِلْمِي العُمَانِي في مجالات الزِّراعة والعِمَارة والطِّبِّ والفَلَك)؛ خلال ذكره أمثلة على نماذج من العمارة الإسلامية بعمان: وتظل المرافق الأخرى بحاجة إلى دراسة متقنة لاستكشاف وجوه الإبداع فيها، ولن يكون أمر دراستها عسيرا في ظل وجود مخططات شبه كاملة لقرى عمانية مندثرة، وحارات قديمة بديعة في تقسيماتها. ودعوتي إلى دراسة الفن المعماري بعمان لا يقتصر على الملامح العامة للعمارة الإسلامية العمانية، بل يتعداه إلى بعض المرافق الخاصة التي أولاها العمانيون اهتماما كبيرا.
وفي هذا السياق جاء كتاب (المتواتر من أخبار الشيخ خميس بن محمد المعولي في الحاجر) لكاتبه الباحث ناصر بن محفوظ المعولي وهو من سلالة المهندس الطبيب خميس من محمد المعولي الذي ولد قبل أكثر من قرن ونصف تقريبا، وترك بصماته الهندسية المعمارية البديعة في عدة ولايات، كوادي المعاول، وبركاء، ومسقط، والعامرات، وقريات، بين مساجد وأفلاج وأبراج وبيوت، ومرافق أخرى، ثم ترك من ذريته في قرى تلك الولايات كالحاجر وصياء وحيل الغاف وبركاء وأفي.
يقول صاحب كتاب المتواتر في مقدمته: “فإنه من التقصير بمكان، أن يجهل الإنسان تأريخ أجداده وما كانوا عليه، لاسيما إذا لم يكن قد مضى على ذهابهم عن هذه الحياة أمدٌ بعيد، وهذه هي حالنا، نحن أحفاد الشيخ خميس بن محمد بن مسعود المعولي، فعندما جئنا إلى هذه الحياة، وبدأنا نتعلم ونعلم ما يجب علينا معرفته من أمور، وجدنا أنفسنا أننا لا نعلم من أخبار آبائنا الذين لم يمض على موتهم إلا سنون قليلة، والأمر يشعرنا بالتقصير أكثر إذا علمنا أن أولئك السابقين من الآباء لم يكونوا خاملي الذكر ولا مجهولي المقام في عهودهم التي عاشوا فيها”.
ونقل الباحث في كتابه عن العلامة الشيخ محمد بن شامس البطاشي قوله عن المهندس الشيخ خميس: له دراية وثقافة قل أن توجد في غيره من العمانيين.
وعدد الباحث عددا من المنجزات المعمارية التي قام بها المهندس الطبيب خميس بن محمد المعولي مدعما ذلك بالوثائق والصور، ومنها المساجد كمسجد المزرع في الحاجر، وهو جامعها حاليا، ومسجد حلة الغرب على مقربة منه، ومسجدين في الخفيجي، ومسجد المحج بالعامرات ذي السقف البديع، وعلى طراز معماري لم يعهد في المنطقة.
ومنها إيصال المياه إلى قصر السلطان بمسقط حيث أجراه عبر أنبوب من أرض منخفضة فيما يبدو ليصل للطابق الثاني من القصر!
ومنها تعميره لفلج حاجر الخفيجي بالعامرات، وكانت المنطقة ذات وعورة وجبال فسهل وعرها وسوى أرضها وجعلها صالحة لجريان الفلج والاستزراع، وأتاح زيادة الأراضي الزراعية، حيث نافت على ثلاثة أرباع الأراضي السابقة.

وقد أوعز إليه بهذه المهام السيد المفضال هلال بن أحمد بن سيف البوسعيدي، المعروف بالسخاء والجود والكرم، وكان من خيار أهل عمان في زمانه، وكانت له أوقاف كثيرة، وكان ذا علاقة وطيدة وقديمة بالمهندس خميس المعولي حسب بعض الوثائق.
ومنها وثيقة منجز آخر وهو البرج الشهير في الجنينة بولاية بركاء، كما كان له حضوره في تعمير حيل الغاف بقريات أوائل القرن الهجري الماضي.
وأورد الباحث بعض المأثورات العلاجية للمهندس الطبيب خميس المعولي، ثم تطرق لذريته ومواطنهم.
يقع الكتاب في 168 صفحة واعتمد فيه الباحث على بعض الوثائق، وعلى ما تواتر من أخبار تلك الشخصية العمانية الفريدة.
والكتاب يمثل دعوة للباحثين للمزيد من العناية بالشخصيات العمانية التي أسهمت في مجال الهندسة المعمارية، والذين لم يذكر أحد منهم في معجم أعلام المهندسين في الإسلام كما يقول الشيخ سلطان الشيباني في بحثه المذكور آنفا؛ بسبب إغفال التأريخ العماني ذكر الأسماء العمانية البارعة الحاذقة في هذا الفن، الذين تدل عليهم آثارهم الهندسية الباهرة في عمان وخارجها، بما أبدعوه من منجزات معمارية مدهشة.