أثير-مكتب أثير في تونس
حاوره: محمد الهادي الجزيري
الصدفة ..وحبّ التجربة والاطلاع ..كلّ هذه الحوافز قادت هذا الأكاديمي الأردني ..إلى التوغّل في عُمان ما يناهز تسعة أعوام ..قضّاها في التدريس والبحث والتمحيص ..، والعجيب أنّه ليس من طبيعة البلد..، لكنّه يصف طبيعة عُمان كأنّه نابت فيها ..متجذّر بين وديانها وجبالها ..متفرّع كظلال أشجارها ونخيلها ..، حقيقة أدهشني الأستاذ محمود الهوواشه بما يكنّ وما يبوح به من حبّ لعُمان وأهلها ..، في هذا الحوار الشيّق حدّثنا عن تسامح العُمانيين مع الآخرين .. وقدرة جميع الأجناس العيش فوق تراب هذا البلد الطيّب ..، وتطرّق إلى حادثة قدومه من وطنه الأردن إلى مطلع الشمس ..، وإلى مواضيع مهمة تخصّ حياته كأستاذ جامعي في جامعة صحار ..وكمواطن احتكّ بالشعب العُماني
ـ من قرابة تسع سنوات.. تمّ التحاقك بجامعة صحار بسلطنة عُمان ..، واختلطت بالمجتمع وبخيرة نخبه ، كيف ترى المستوى الذي بلغه الشعب العُماني في انفتاحه على الآخر وقدرته على التواصل مع مختلف الجنسيات الأخرى ؟
يمتلك الشعب العماني مفتاح الانفتاح على العالم بطيب تعامله وكريم أخلاقه، ولعلّ هذا من أسرار امتداد الامبراطورية العمانية قديما، فلا تمييز بين الناس إلاّ بقدر إخلاصهم وعطائهم..، فكلّ الجنسيات تعيش بسلام في سلطنة عُمان، ما يُحفزك على الإخلاص والعطاء والحب لهذا البلد الطيب…
ـ بعد هذه الفترة الطويلة نسبيّا …يمكن القول أنّك أصبحت ابنا من أبناء مطلع الشمس ، فكيف قضيت طول هذه المدّة ..هل لك أصدقاء وخلان ..، هل وجدت صعوبة في التأقلم والاندماج في بداية الإقامة ؟
إجابة هذا السؤال تكمن في قصة العمل في سلطنة عمان.. : لم يكن بواردي أن أتقدّم للعمل في سلطنة عُمان، فلم أنصح بها من الجانب المادي، وعلى غير موعد دقّ هاتفي وأنا في لجان تأليف المناهج في وزارة التربية والتعليم الأردنية نعدّ منهاجا جديدا، فإذا بابن أختي يسألني إن كنتُ أعرف دكتورا متخصصا في اللغة العربية للتعاقد مع جامعة عُمانية، ومن مبدأ (جرّب) قلتُ ألا ينفع أن أكون هو؟، وقد وصلت التقاعد توّا، وتمّ التواصل والسفر في منتصف العام، على أن أختبر معدن الناس فإن راق لي المقام مكثت وإن فلا، وسأعود إلى عملي، فكان طيب الناس وحسن الخلق وسهولة الإندماج مع أهل عمان جاذبا، فتقدمت بالتقاعد عن طريق السفارة…وغضضت الطرف عن الجانب المادي، وها أنا أدخل العام التاسع…
ـ لديك مجموعة من الكتب العلمية والتربوية، وعديد المشاركات في مؤتمرات ولديك ما لا يُحصى من الدراسات في مجلات مختصة ، كيف توزّع وقتك لتفتكّ هذا الحيّز الهام من العزلة للكتابة..، خاصة مع منصبك الجامعي الذي يتطلّب الوقت والجهد ؟نعم، أعباء العمل كثيرة، لكن من أراد… واصل فوصل، فنحن وليس أنا فقط، نسترق أوقات الأسرة والراحة للبحث العلمي، ويزول التعب والضجر عندما يرى عملك النور.
ـ بعد كتاب الفضلة بين نحو النّص ونحو الجملة.. وكتاب آيات المراودة وغيره ..هل أنت بصدد إعداد متن جديد في مجال علمي أم في مجال آخر؟
نحوتُ في الدراسات العليا منحى الدراسات الحديثة خاصة نحو النّص، وتبنيت ذلك في كتاب: الفضلة بين نحو النص ونحو الجملة، فدرستُ نصية الجملة في اللغة العربية وهو مشروع لغوي لم يكن مطروقا من قبل على علمي، وقد شحذ همتي على ذلك المشرف على رسالة الدكتوراة المرحوم الاستاذ الدكتور نهاد الموسى، أحد أعلام اللغة العربية في الوطن العربي، وأعطاني الثقة بعد أن أطلع على رسالتي قائلا: هذا مشروع في العربية وقليل هم أصحاب المشاريع في اللغة، ومن فضول القول أنه عارض كتابتي في الفضلة بداية؛ لأنه يرى أنها قد بحثت كثيرا، فلما رأى إصراري قال: إن كنت مقتنعا ولديك الفكرة فهذا توقيعي وخلص نفسك مع المناقشين.
ولديّ توجّه إلى الأبحاث التي تكشف عن التوحيد في اللغة العربية، وقد أنجزت أحدها والثاني في طور التحضير، فقد لاحظت أنه لا توجد ألفاظ تنكر وجود الله في أصل الوضع اللغوي، فألفاظ الكفر كلها اصطلاحية..، ولدي تحضير أخر أجمع فيه ما كتبت من مقالات ومقتطفات ارتدت ثوب الأسلوب الأدبي…ـ الأكيد أنّ لك راحتك الخاصة بعيدا عن رتابة اليوميّ ..،… أي المناطق أحبّ إليك ..وترتاح فيها وتعود إليها.. خاصة أنّ عُمان فيها مناطق خلاّبة ؟
عُمان لوحة طبيعية غناء جميلة، تتشكّل على رقعتها الواسعة تضاريس ومناخات متنوعة، فالجبال باسقات تنبيك عن الشموخ والصمود، وفي بطونها المعادن ممّا خفّ وغلا، ولا تستغرب أن وقع بصرك على مجموعة ألوان طبيعية في أقلّ من نصف كيلومتر، وتربض أسفل هذه الجبال على جنبات الوديان نفوس هادئة طيبة، وبيوت ومزارع نخيل ومنجا وغيرها وماشية مما أنعم الله، وعيون ماء لطيفة كعين الثوارة وساخنة كعين الكسفة وأفلاج تغازلك وتسير بك لتتبعها بين النخيل، فتنساب عنك وانت مشدوه بجمالها، فإذا صرت إلى الوديان تجري بماء المطر في أغلب أشهر العام، وتمر على قرى بمنعرج الوديان فتجلس معها بهدوء تحرسه الجبال الشامخات، وتعزف الطبيعة لك ألحانها، وهناك في وادي بني خالد ترى الأشجار المائية تحت سطح الماء بطول خمسة أمتار تحت زرقة صافية رقراقة، وإذا وصلت الساحل الشمالي تحسب أنك في غابات أفريقيا فغابات النخيل والأشجار الطبيعية تمتد على طول الساحل، فتنسى أنك مررت بجبال وأودية، ويأتيك البحر بشواطئه الطويلة التي ما زالت تحكي قصتها الأبدية، نظيفة تعزف الأمواج عليها لحن الخلود، وفي صلالة تنفث لجة البحر من بين الصخور كالحيتان، وإذا أردت الرمال يممت شطر الغرب فتبدو لك كالبحر يتلألأ فيه الآل، وإذا دنوت بدت الرمال كالموج العالي، ولك أن تصطلي بشمسها وتتنشف، وتتسلق كثبانها، وتسلك أوديتها.
وفي الصيف الحار تستطيع أن تعيش أجواء بلاد الشام والساحل الإفريقي في الجبل الأخضر لاعتدال الصيف فيه، وإذا مررت ليلا بجانب الجبل الأخضر تحسب مصابيح الكهرباء نجوم السماء لارتفاع الجبل، ولا تحسبنه جبلا كمفهوم الجبل فساحتة قد تزيد عن مساحات بعض الدول..، وفي الصيف الحار ترتدي صلالة حلّة الربيع، ويسمّونه خريف صلالة وما هو بخريف فيه أجواء لا توصف من الجمال والروعة؛ سماء يظلها الله بالغيم الشفيف والرذاذ اللطيف، ترى حبات الرذاذ والندى على الاعشاب كالدر المنثور، ترى الجبال تكسوها الأشجار والأعشاب، تسمع التغريد وترى قطعان الإبل والبقر قياما وقعودا تسر الناظرين…، عُمان بلد عريق شكل امبراطورية امتدت على أجزاء من قارة أسيا وأفريقيا ما أعطاه بعدا تاريخيا، خلّف معالم أثرية تستحق الزيارة…، هذا نزر يسير عن جمال طبيعة عُمان الحبيبة، لكن ينقصها الترويج السياحي والخدمات السياحية التي إن قامت وفرت مصدرا كبيرا للدخل الوطني، وساهمت في تشغيل اليد العمانية… عداك عن الثروات الأخرى المعدنية والبحرية.
ـ كلمة الختام ..تُرى ما لم تقله أبدا لعُمان ..، رسالة ودّ وامتنان .. من سيّد قضّى فيها قرابة تسع سنوات .. وصارت وطنا آخر له ؟
يقول المثل (من عاشر القوم أربعين يوما صار منهم) فكيف بمن خبر كريم طباعهم..، إن الإنسان العُماني مدرسة في الأخلاق والنبل، يشعرك بالطمأنية والأخوة، فترجو أن تتاح لك الفرصة لخدمة هذا الوطن بإخلاص لا ترجو له مقابلا..، في عُمان تشعر أنك في وطنك ولا تضام ولا يهضم حقك، ولا يعتدى عليك فقد صدق فيهم قول الرسول الكريم : لو أهل عُمان أتيت ما ضربوك ولا سبوك (شتموك)..، فهم نعم الأهل والصحب ونعم المعشر والمقام، وكم أرجو أن تمنح الفرصة لمن أحبّ هذا الوطن أن يعيش فيه …