أثير – مكتب أثير في تونس
حاوره: محمد الهادي الجزيري
مغبوطة عُمان على هذه النخبة التي انتقتها من كبار النفوس لتعليم الأجيال القادمة، في هذا الحوار أقدّم لكم قامة علمية لم تزده هذه المكانة إلا تواضعا وحبّا للناس ونبلا في تعامله مع المجتمع الذي يعيش فيه، إنّه الأستاذ الدكتور محمد خالد العلاونة، وقد قبل دعوتنا للحوار وقدّم في البداية مقارنة بين أمريكا (حيث كان يعمل) وسلطنة عُمان، ثمّ أذهلني بحديثه عن عائلته واستشارتها، وكان في غاية من اللطف واللين والبهاء، وفي هذا الحوار الاستثنائي يقدّم لنا شهادة رائعة في الشعب العُماني في حديثه عن انفتاحه على الآخر، هذا بالإضافة إلى ظرفه ورحابة صدره، فشكرا لعُمان على هذه الهدية القيمة، فقد أفحمني بقيمته الإنسانية قبل المعرفة والعلم.
– أنتَ جديد في عمان، فهل وجدت صعوبة في التأقّلم والاندماج في البداية؟
الصحيح أنّه لم يسبق لي وأن تغربتُ وابتعدتُ عن أسرتي من أجل العمل، ولكني قضيت فترة من الوقت في الولايات المتحدة من أجل مواصلة دراستي لدرجة الدكتوراة، وبعدها قمت بزيارة عدد من الدول العربية والغربية في زيارات عمل ومؤتمرات ومشاريع، ولكن دائماً ما كنت أحدّث نفسي بأنني لا أستطيع العيش خارج بلدي الأردن، إلا في بلد واحد ألا وهو أميركا، حيث أحببتُ البلد والنظام فيها وطبيعة الحياة، وأتذكّر أنّه كان لديّ صعوبة بالغة في البداية، من حيث اللغة والتأقّلم مع ما يدور هناك من عادات لا تشبه عاداتنا، وقد امتد ذلك الاستغراب بعض الوقت ولأكثر من سنة، بعدها بدأت أفهم طبيعة الحياة والناس، وهذا ما كنت أخشاه حين فكرت بالقدوم إلى السلطنة، ولكن هنا يكاد الأمر يكون مختلف تماماً، فقد اعتدت الحياة واندمجت بالمجتمع العماني بكلّ أطيافه خلال الشهر الأول من قدومي إلى البلاد حيث اللغة والعادات والكثير من التقاليد تشبه عاداتنا وتقاليدنا، ونتكلم نفس اللهجة إلى حد ما، كذلك فالجو الأكاديمي لا يختلف كثيراً، أضف إلى أن كلّ شخص تلاقيه في هذا البلد هو محفز بطريقة أو بأخرى لتأقّلمك مع المكان.
- كيف تم انتقالك من جامعة اليرموك إلى جامعة صحار، هل كانت الفكرة جاهزة لديك؟
أنا بطبعي أحب التغيير، وأسعى له في جميع جوانب الحياة، ولا أستطيع الاستمرار بعمل نفس الشيء بنفس الطريقة بنفس المكان لفترة طويلة، لذا بعد مضي فترة أكثر من عشر سنوات من العمل في جامعتي الأمّ، وبعد أن حصلت على الترقية لرتبة أستاذ دكتور، قررت أن أبحث عن مكان آخر للعمل فيه بعد أن أحصل على إجازة تفرغ علمي، فبدأت البحث عن فرصة في الجامعات المحلية ولكن الفرص شحيحة هناك، فأخذت بالبحث في مواقع الجامعات المختلفة، وأقدم طلب هنا وطلب هناك ولديّ اليقين بأن فرص العمل ليست بالسهلة، وذات يوم أرسلتْ لي جامعة صحار إيميلًا يفيد بأنني تقدمت بطلب للعمل كعضو هيئة تدريس ولديّ مقابلة مع إدارة الجامعة في اليوم والتاريخ، تمّ إجراء المقابلة وكانت من المقابلات الرائعة التي أجريتها في مسيرتي المهنية، ولم يمض بضعة أيام حتى عاودوا الاتصال بي يعرضون على العمل في الجامعة، ولكني أخفيت الأمر عن أسرتي لأكثر من شهر، ولم أكن مستعداً نفسياً لإخبارهم حيث كنت أتوقّع بعض المعارضة، ولكن كان لابدّ من عقد اجتماع تشاوري عائلي لاتخاذ القرار، الذي كنت اتخذته مسبقاً بموافقتي على عقد العمل.. وهكذا بدأت الرحلة.
– يشهد المجتمع العماني درجة عالية في انفتاحه على الآخر، وقدرته على التواصل مع مختلف الجنسيات، فهل لاحظتَ ذلك رغم قصر الفترة التي قضيتها في نسيجه الاجتماعي؟
أقوم حالياً بقراءة تاريخ عُمان عبر الحقب التاريخية المختلفة، وأجد في كل مرحلة من مراحل هذا التاريخ إجابة عن سؤالي، كيف لهذا البلد أن يكون منفتحا على الجميع ولديه علاقات طيبة، وعلاقات حسن الجوار على مبدأ الاحترام المتبادل وعدم التدخل بشؤون الغير، وهذه العلاقات تنعكس على حالة المجتمع العُماني إلى حدّ بعيد، وهذا ليس بغريب على المجتمع العُماني والإنسان العُماني قدرته على الوصول للآخر، لا بل احتضان الآخر وتقديم كل مساعدة ممكنة له، وقد لا أكون مخطئاً إن قلت أن هذه السمة الإنسانية والودّ والهدوء والطيبة والابتسامة الدائمة على وجوه العُمانيين لَهِي نعمة من نعم الله عليهم، حيث تجد كثير من شعوب الأرض سواء كانوا في الغرب أو الشرق وجوههم متجهمة ومتعبة، بعكس ما وجدته هنا حيث لا تسمع من أي منهم سواء كان غنياً أم فقيراً كبيراً أم صغيراً إلا جملة واحدة “الأمور طيبة”، وجدنا كرم الضيافة من طلبتنا ومن زملائنا ومن جيراننا بدون تكلف وبدون تزلّف، ليس فقط نحن كعرب في هذا البلد، ولكني شاهدت كيف يعامل العُمانيون العمالة من الجنسيات الأخرى، فقد أعجبتُ بهذه الإنسانية التي يمارسها جميعهم مع هؤلاء بدون فوقية أو تعالٍ أو تعريضهم لأي أذى جسدي أو نفسي، حتى أنّ صوتهم لا يكاد يعلو على أصوات الآخرين من الجنسيات الأخرى.
– تقوم بتدريس طلبة الدكتوراة والماجستير في كلية التربية والآداب، ما رأيك بمستوى الطلبة مقارنة بغيرهم من الطلبة؟
تُقدّم جامعة صحار وللمرة الأولى برنامجي دكتوراة في المناهج والإدارة التربوية، إضافة إلى برنامجين مماثلين لدرجة الماجستير، حيث أقوم بالفعل بتدريس الطلبة في هذين البرنامجين، الطلبة العمانيون لا يختلفون عن باقي الطلبة الذين قمت بتدريسهم خلال مسيرتي التعليمية في أميركا أو في بلدي، لا بل، لا أكون مبالغاً في الحديث إذا قلت إن بعض الطلبة أفضل بدرجة من أقرانهم في دول أخرى، ذلك يدفعني دائما إلى الارتقاء بالعملية التعليمة وأهدافها لتقديم أفضل ما يمكن تقديمه لهم، وبما يتناسب مع مستواهم المعرفي، الطلبة في هذين المستويين مهتمون جدا بمستقبلهم الأكاديمي وتطورهم المهني، فهم مجدّون ومجتهدون، وفي كثير من الأحيان يتجاوز نسبة كبيرة منهم توقعاتي كمدرس لمستوى أداءهم سواء في الامتحانات أم في الواجبات.
- هل لديك كتابات أو دراسات علمية في هذه الفترة؟
في مجال الكتابة العلمية والدراسات، بالتأكيد لا يمكن للمدرس الجامعي التوقف عن النشر العلمي والكتابة، لأنّها جزء لا يتجزأ من الشخصية الأكاديمية التي يسعى دوما من خلالها إلى خدمة العملية التعليمية والبحث العلمي وكذلك المجتمع، لذلك من غير الطبيعي أن يكون الشخص مدرّس جامعي وليس له إسهامات بشكل أو بآخر، من جهتي أعمل حالياً على كتابة أكثر من مقالة علمية تمهيداً لإرسالها للنشر، وهي تتعلّق بتخصصي في مجال تحليل وتطوير المناهج وتكاملها، والبحث عن المهارات اللازمة لسوق العمل، وتوجيه الطلبة نحو أعمال المستقبل وبما ينعكس على العملية التعليمية بشكل إيجابي.
– هل وقعت لك طرفة أو نادرة مع أهل عُمان وخاصة في أوّل ما قدمتَ؟ ليس بالكثير، فقط عندما كنتُ أحاول أن اشتري سيارة فهناك الكثير من المصطلحات المتداولة التي كانت غريبة عليّ، فأكثر من شخص كان يقول لي تم تغيير “السفايف” وكنت اعتقد أن السفايف شيء مهم داخل محرّك السيارة فأتراجع عن شراءها، وكذلك ” تغيير آيل” لم أفهم ما المقصود بذلك و”الليت” لم أعرف أنّه الإضاءة إلاّ بعد الاستفسار من الزملاء، ولكن المعاناة تكون أكبر عند التعامل مع العمالة بسبب صعوبة التواصل معهم، مثلاً كان من الصعب أن أفهم كلمات مثل “بند بطل” كذلك “بروبر” أو “برابر” وما إلى ذلك من مصطلحات تحتاج إلى ترجمة، حيث إن موضوع التواصل مع العمالة هنا صعب للغاية، وقد يؤدي إلى مضاعفات سلبية وخاصة إذا كان هذا العامل “الحلاق”، فحين كنت أستعد للسفر إلى بلدي الأردن، وذهبت إلى الحلاق وقلت له أن يحلق شعر رأسي من الجوانب باستخدام الماكنة ومن الأعلى بشكل عادي، واعتقدت أنه فهم عليّ، فأزال كل شعر رأسي بالماكنة، وسافرتُ بحالة غير مفرحة أثارت استغراب الأهل هناك، فما عدت له بعد ذلك، ولا أنسى كذلك ..الموقف الذي حصل معي وأسرتي: حادث مرور كاد أن يُؤدي بحياتنا عندما ضربتنا سيارة من الخلف بقوة هائلة، وكنت بحالة غضب شديد بسبب ذلك، نزل بعدها شاب صغير من السيارة وهو يضحك ويقول “الأمور طيبة” الحمد لله على السلامة، عندها هدأت وتمالكت نفسي من الغضب.
– ماذا عن راحتك الخاصة بعيدا عن رتابة اليوميّ، وأنت مقيم في صحار الجميلة أي المناطق أحبّ إليك وترتاح فيها وتعود إليها؟ قمتُ بزيارة عدد من الأماكن بصحار، وبدون مبالغة أحببتُ كلّ الأماكن التي زرتها، من القلاع إلى المزارع إلى المطاعم والمولات، ولكن هناك مكان لا أستطيع التوقف عن زيارته ولو ليوم واحد إلاّ لظروف طارئة، ألا وهو شاطئ صحار، فهو المكان الذي أذهب إليه بشكل شبه يومي بعد نزول الشمس، أجلس لوحدي، أحضر كتاباً، أتناول بعض الطعام أحياناً وأحضر قهوتي أحياناً أخرى، أمارس رياضة المشي قليلاً على الشاطئ، أقابل بعض من الجيران والأخوة الصيادين، وأبادلهم الحديث حول كلّ الموضوعات التي تخطر في بالي، بدءًا من نوع السمك الذي يصطادونه والأدوات المستخدمة إلى القوارب وأسعارها، وأسعار السمك في السوق، والدخل المتأتي من البيع إلى الأولاد وتربيتهم، وفي كل مرة أقابل فيها أحدهم، أتعلم منه شيئاً جديدا حول العادات والتقاليد وطبيعة الحياة في هذه البلدة المباركة.