أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج
قبل فترة قليلة أعدت قراءة كتاب ضخم، شديد الأهمية (في جزأين في الطبعة الفرنسية. La Destruction des Juifs d’Europe غاليمار، فوليو): “تدمير يهود أوروبا” لراوول هيلبير Raul Hilberg بيَّن الكاتب فيه الأساليب المعتمدة في أوروبا في عملية التدمير التي بدأت بمعرفة الثقافة اليهودية والخصوصيات الدينية وتعريف “هوية اليهودي”، سلب الأملاك بمختلف الحيل الممكنة، أسلوب الغيتو والتجميع ليسهل الانقضاض على المجموعات، والتمزيق العائلي، قبل أن بجعل من معاداة السامية سلاحا فتاكا بابتذال المفهوم حتى أصبح مجتمع القرن التاسع عشر معاديا للسامية في مجمله، لا يجد أي ضرر في إنزال اليهود إلى مرتبة التخلف والحيوانية والخيانة مثلما هو الحال بما سمي في فرنسا ب”قضية دريفوس”. ثم تم تطوير آلة التدمير بالعمل على الاستيلاء على المال بالتفريق من الداخل وإغراق العائلة اليهودية في العمالة والأطماع وفي صراعات ثانوية ولكنها قاتلة ومدمرة وتزرع عدم الثقة في كل شيء. وقد اعتمد التدمير المنظم على ناس مختصين في الطبائع البشرية والديانات وأنثروبولوجيا وتسخير جهود كبار المختصين في معاداة السامية والتدمير المنظم وإنشاء آلة الجريمة النازية التي جعلت من الهولوكوست منتهاها الذي تمت بموجبه الجريمة. قد يكون هذا كله معروفا، لكن الذي يغيب عنا عربيا أو لم نوله أي اهتمام يذكر وكأن ما حدث للعرب قديما وحديثا واليوم هو مجرد سلسلة من الصدف والأقدار؟ مع أننا نعرف أنه منذ اتفاقيات سايكس بيكو، أصبحت عملية التدمير مؤسساتية أي تعتمد على تنظيم مسبق حاضر ومستقبلي. وراءها مختصون وليس عبثا أن يقود الحملة ملتزم بالحركة الصهيونية كليا حتى وفاته. برنار لويس. فهو من أهم اعتمدوا نظرية التدمير العربي ومن أهم ممن استفادوا بهذه النظرية بهدف تدمير العالم العربي. فقد سلك المسلك نفسه وسخره لخدمة قضية الصهيونية وتدعيمها. شخصية غير عادية. باحث بريطاني أمريكي، وأستاذ كرسي في جامعة برينستاون، مختص في قضايا الشرق الأوسط وتركيا والعالم الإسلامي والعربي. أنجز الكثير من الأبحاث والدراسات، التي أثارت جدلا كبيرا لموضوعاتها ولرؤيته الإشكالية أيضا. منها العرب في التاريخ (1950)، العرق واللون في الإسلام (1982)، اليهود والإسلام (1984)، تركيا الحديثة، الشرق الأوسط والغرب (1993)، العرق والعبودية في الشرق الأوسط (1993) تاريخ الشرق الأوسط (1995). أزمة الإسلام (2003)، وغيرها من الأبحاث المهمة التي شكلت رؤيته بشكل واضح للشرق الحضاري والإسلام. وهو فوق هذا كله، مثقف ملتزم وفاعل في الوسط الثقافي، لا يكتفي بالعمل المخبري.
سخر أبحاثه لما يخدم قضاياه التي يؤمن بها ودافع عنها باستماتة، منها الصهيونية، والمناصرة غير المشروطة لإسرائيل فهو يحمل جنسيتها أيضا، فقد عمل مستشارا مقربا لنتنياهو عندما كان هذا الأخير سفيرا لإسرائيل في الأمم المحتدة. الذي لا يعرفه الكثير من المتابعين للشأن الفكري والحضاري، أنه هو صاحب مصطلح صدام الحضارات، الذي استعاره منه لاحقا، مساعده الأمين في مجلس أمن الدولة الأمريكية، صامويل هنتنغتون الذي طور المصطلح في 1993.
أستعمله برنار لويس أول مرة في ملتقى حول الصراعات في الشرق الأوسط، الذي نظمته جامعة جونز هوبكنز بواشنطن في سنة 1957، مباشرة بعد العدوان الثلاثي او ما سمّي في الغرب بأزمة قناة السويس.
بحكم حنكته الفكرية وتعلمه اللغة العربية وغيرها من اللغات الشرقية الأخرى، فقد عرف المجتمعات العربية والإسلامية عميقا، ودرس أنظمتها التاريخية وبناها الفكرية والثقافية على مرٌ العصور، ودرس تكون المجتمع العربي قبل الإسلام وبعده. وصعود الحضارة الإسلامية وانهيارها. قبل أن يصل في النهاية إلى استنتاجات شديدة الخطورة. من هذه الناحية يستحق أن تفرد له ندوة عربية وعالمية كبيرة لفهم أطروحاته لأنها تهمنا اليوم كعرب. ويفترض، في هذا السياق، أن يكون المثقفون العرب ومختبراتهم وفرقهم البحثية، قد اطلعوا على هذه الأطروحات الواضحة في أبحاثه ومؤلفاته، وقرأوها جيدا، وفهموا مغزاها واستوعبوها لأنها تستحق ذلك، لتحديد وسائل الدفاع الافتراضية لمجابهة مثل هذه الأفكار ثقافيا التي تحدد بل وتحكم اليوم في مسارات المجتمع العربي. كما يحدث في كل البلدان، وفي المؤسسات الثقافية التي تحترم نفسها وتدافع عن وجودها وكيانها.
الصورة المصنوعة للعربي اليوم والمتداولة في السوق لا تخرج عن أطروحات المخابر الدولية والأمريكية والصهيونية التي اشتغل فيها برنار لويس. هذه الجهود ليست بعيدة في النهاية عما فعلته سينما هوليوود التي نمطت العربي ونمذجته في سلسلة من الكليشيهات الجاهزة. لا غرابة عندما نعرف منابع هوليوود ومن أنشأها وأهدافها القريبة والبعيدة سينمائيا. يضاف إلى ذلك مسؤولية العربي الحاكم أو في التنظيمات المتطرفة التي ساعدت على ترسيخ هذه الصورة بحيث أصبح كبار القتلة، في ظل التطرفات الدينية العربية، كبار المدافعين عن الحريات العامة ومنع تكون بؤر ودويلات إسلاموية متطرفة مثل نتنياهو من أعلى منصة أممية الذي جعل من حربه ضد غزة حربا دفاعية عن الإنسان في وجه الإسلام السياسي والعسكري، وميلازوفيتش الذي جرمته الأمم المتحدة، الذي كان وراء إبادة أكثر من 10 آلاف مسلم في بريسنيتشا يقول انه كان يحاول منع تكون دولة إسلامية في عمق أوروبا. الوضعية العامة مناسبة ترفع قتلة إلى سدة الإنسانية وكأن العالم يسير بالمقلوب.
الصورة التي يقدمها برنار لويس عن العرب واستحالة تقدمهم (البنيوي والذهني؟) تتحرك وفق نفس المنطق وربما أخطر لأنها متأتية من شخص فكر في الأشياء. وهي نظرة سادت في القرن التاسع عشر وما تزال مستمرة إلى اليوم، بحيث لا ترى في العرب إلا كومة من القبائل المتنافرة تتلاقى وتتنافر ولا يجمعها أي رابط عميق فيما بينها. قد يبدو ذلك في الظاهر ليس مخطئا كليا، لأن مثل الظاهر موجودة لكن الذي لا يقوله هو أنها ظواهر صاحبت كل المجتمعات الإنسانية معتمدة على الديني أو العرقي أو الطائفي، أو مجتمعات ما قبل الدولة، والمعضلة هنا، ولنا أن نسأله ببساطة مم تتكون بريطانيا وفرنسا وروسيا وبلدان أوروبا الشمالية؟ لنجد الإجابات. المشكلة الكبرى هي أن العرب حرموا من تكوين الدولة الناظمة المختلفة عن الحكم. تصور مثل هذا، يشكل مرتكزا ميدانيا ونظريا، لبرنار لويس. طبعا هو واع كليا لكل ما يريده بالخصوص عدما نعرف أنه عمل في أجهزة حساسة بريطانية، أمريكية وإسرائيلية. جهده العلمي والإيديولوجي ينتــــمي إلى جـــهاز تفكــيري كبير يتجاوزه حتى هو، يهدف في النهاية إلى التسليم بأن المجتمع العربي، لا قابلية له على التطور إلا في نظامه القبلي أو العرقي أو الطائفي، الضيق والداخلي الذي تكون في حاضنته. مما يفهم أن على العرب أن لا يكونوا دولة أو حتى دولا. المسألة لا تحتاج إلى نقاش كبير، هذا المنع من تكوين قوة ناظمة يعني وضع إسرائيل في خطر.
هو نفسه منع العـــرب من امتـــلاك أسلحة متقدمة بل واغتيال كل علمائه ومفكـــريه لتظل “إسرائيل” على ما هـــي عليه اليوم. ولكن هل يمكننا أن نقتل التاريخ البشري؟ يمـــكن أن نؤخر حركة الساعة لكننا لن نوقفها ولنا أمامـــنا النازية، القريبة منا، بكل غطـــرستها، ماذا بقي منها اليوم؟ لو لم يربط العرب بالقضية الفلسطينية ووجود إسرائيل لتغـــيرت العلاقات كليا على الأرض، بما فيــها العلاقـــات الدولية والنظـــرة للعرب ووظيفة هذه المخابر الموجهة لدراسة العربي، هذا الكائن الأسطوري في كل تفاصيله. العالم يسير بالمقلوب. ما حدث بالأمس في سايكس ـ بيكو، عندما تم تمزيق الأرض العربية، بأيد استعمارية وعربية ايضا، التي كان يمكن أن تؤسس عليها دولة واسعة، وهو ما يحدث اليوم بتفكيك كلي للدولة بحيث لا يبقى أمام العربي إلا الانتساب للقبيلة أو الإثنية أو الطائفة.
ولا يعترف بالدولة الناظمة وسيعود للنظم التقليدية في نهاية المطاف. وهي أطروحة تهدف في النهاية إلى كسر كل يوتوبيا حية في الوجدان العربي. ناهيك عن كون هذه الأطروحة عنصرية في أساسها لأنها ترهن قابلية التطور والحق في الدفاع عن النفس، في شعوب بعينها مثل إسرائيل، وتلغيها على الآخرين. وتفترض في مسبقاتها غير الصحيحة، وجود مجتمعات ليست لها هذه القابلية إلا إذا عادت إلى أصولها الأولى.
إن المسلمون، والعرب بشكل أدق، بحسب برنار لويس من الصنف الذي لا يملك القابلية للتطور لانشداده التاريخي والمرضي أحيانا، للنظم التقليدية الهرمة كالأسرة والقبيلة والعشيرة، والطائفة والعرق واللون، التي يحميها وينضدها الدين، بل ويحركها في الاتجاهات التي يريدها.
هناك مكونات داخلية فيه تكاد تكون جينية، تاريخية، تمنع العربي من تحقيق أية نقلة نوعية. العرب يعيشون تحت ضغط نظام قبلي شديد التصلب والرجعية زكّاه دين جُفف منذ انهيار الإمبراطورية الإسلامية، وأصبح غير قابل لأي تطور على العكس من حضارات وديانات أخرى. قد يبدو الكلام في ظاهره صحيحا لأن الإسلام المخبري الذي يهيمن على الساحة اليوم والذي فُرضَ بواسطة الجهلة والإعلام المتحيز، هو إسلام بلا محتوى حضاري أو إنساني.
إسلام العصر الحجري، والقتلة، ومهربي المخدرات والأسلحة والأعضاء البشرية، ولا علاقة له مطلقا بالإسلام الذي غير وجه العالم، وقدم خيرا كبيرا للعالم وأمده بصورة حضارية أخرى للاستمرار. لكن، أليس للعرب الحق في الانتساب إلى الحداثة كما جرى ذلك في اليابان التي اخترقت كل تقاليدها البالية وأنشأت مجتمعا جديدا؟ والصين غيرت نظامها السّلالي الإقطاعي لتتحول إلى واحدة من أكبر القوى العالمية؟ وإندونيسيا، وغيرها من الدول والكيانات؟ هل قدر المجتمع العربي أن يوضع داخل نظام ولا حق له في الخروج منه؟ عندما نقرأ التاريخ، وبرنار لويس قرأه بعمق ولكن بنظارات المخابر التي تنتظر منه شيئا محددا بعينه، سنرى ببساطة أن هذا النظام الذي يسمه بالقداسة عند العرب، كسره الإسلام الحضاري، على الأقل وكوّن دولة بالمعنى المؤسساتي مستفيدا من المكاسب الإنسانية اليونانية والرومانية والهندية والفارسية والصينية، في التسيير والتبادل والقانون. وانصاعت القبيلة للنظام الجديد. تسيير الدولة ظل قائما على أساس الوسائط الحضارية المتوفرة الشبيهة بنظم اليوم إلى حد بعيد من حقوق وواجبات وبرلمان وقضاء ينطبق على الجميع.
حتى تشكلت إمبراطورية لها ما لها، وعليها ما عليها، ككل الإمبراطوريات في العالم. يحتاج المرء العادي، وليس الباحث، إلى كم من العمى لينفي كل ما قدمته هذه الحضارة التي قدمت في شخص ابن رشد جهدا إنسانيا أخرج البشرية من عمى الكنيسة ومحاكم التفتيش المقدس في تصوراته التي نتج عنها فصل الدين عن الدولة. الخروج من النظم القاهرة والتخلف هو جهد بشري وليس قدرا من الأقدار التي لا يمكن تغييرها، لأنها ملتصقة بالدين واللحم والعظم والدم. بحسب برنار لويس العرب لا يمكنهم أن يبنوا دولة، والمسألة ليست خيارية، لكنها تاريخية وبنيوية. مجبرون على العودة إلى الأصول الأولى. في الظاهر، وضعية العالم العربي الحالية تعطي لأطروحاته نوعا من المصداقية. نحن أمام عالم عربي يتفتت ويعود إلى لحظاته الأولى، ما قبل الدولة. قاطعا في الوقت نفسه علاقته بالتنمية والتطور وكل رصيده المالي يذهب هباء في الحروب الخاسرة وفي الممارسات التي لا قيمة استراتيجية لها أبدا. لكن أليست العملية عكسية. أي أنها تنطلق من العالم العربي كما وصّفته الأبحاث المخبرية، وتنشيط كل تناقضاته الداخلية وإشعالها ليصبح العرب بالفعل في الصورة التي حللها برنار لويس؟ من كان يقول أن العراق ستشتعل بهذا الشكل وستتمزق على أساس طائفي وعرقي؟ لأجل هذا كان لابد من تفتيت الدولة الناظمة، بغض النظر عما كانت تمثله الدكتاتورية. وتم ذلك وفق مسبقات نظرية وأبحاث كانت تعرف ماذا تريد. من تصور أن مجتمعا سوريا متعددا ومتنوعا سيضيق به الأمر حتى يصبح اقتتالا بشراسة على أساس ديني أو طائفي أو عرقي؟ الأنظمة تزول اليوم أو بعد قرن، لكن عندما تنهار الدولة تنهار معها كل سبل التنظيم والتطور. أما المصالح الكبرى النفطية، وتوفير ضمانة لإسرائيل في وقت هي فيه الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، فهذا يمر ويترسخ. القوى التي تمنح الغلبة لإسرائيل هي نفسها التي تغرق العرب في المزيد من التخلف الدائم والحروب البينية الخاسرة بما فيها الأنظمة القبلية والطائفية التي تلوح في الأفق. وبحسب برنار لويس، المشكل بين الإسلام والغرب ليس شيئا آخر إلا الديمقراطية. العالم العربي الإسلامي تحالف مع الشيوعية لخوض حرب مقدسة من أجل الديمقراطية. الإسلام الضعيف والمفكك منذ قرنين، أصبح يبحث باستماتة عن حلفاء لمقاومة الديمقراطية. الديمقراطية هنا ليست كممارسة ولكن كإيديولوجية. وكأن المسألة ليست مسألة إذلال واستعمار شعوب بكاملها، وأنه منذ سقوط الباب العالي عوض الغرب الحامي والاستعماري القوة العثمانية بقوة أكثر إذلالا هي القوة الاستعمارية الناهبة والمدمرة. والذين يسميهم برنار لويس بالمضادين للديمقراطية، هذا الغرب نفسه هو من وضعهم لحماية مصالحه. العالم لا تحكمه المصالح المادية فقط ولكنه يحتاج إلى قوة فكرية مبررة في شكل مظلة. هناك تيار فكري أو لنقل جيش مجند لأداء وظائف فكرية، متخصص في الشرق تاريخيا، يرتكز على أنثروبولوجيا استعمارية لا تختلف مطلقا عن تلك التي سادت في القرن التاسع عشر، ومهدت للاستعمار، بعد أن قرأت بدقة عقلية الشعوب وأنماط تفكيرها. الأمر إذا لا يأتي هكذا، أو بمجرد ردة فعل آنية، ولكن بعد قراءة نقاط الارتكاز القوية والضعيفة في منطقة من المناطق، مثلما هو موجود في الجسور. إذا أردتَ أن تحطم جسرا، لست مضطرا لتدمير البنية بكاملها، قد يكون ذلك تضييعا للوقت. يكفي التركيز على نقاط الارتكاز الضعيفة، ليسقط كل شيء. طبعا، منحت الأنظمة العربية الفاسدة كل مبررات هذه الأطروحات لكي تبدو كحقائق. وهذا لتبرير ما يحدث اليوم من تمزقات تستهدف الكسر الكلي لنواة الدول العربية التي تكونت في المئة سنة الأخيرة، وإرجاعها إلى تخلفها بإغراقها في حروب داخلية تبدو طبيعية ولكنها مدمرة لأنها طويلة وبلا جدوى. ما يعيشه العالم العربي ليس بعيدا عن هذه الدراسات المخبرية التي أنفق عليها المال الكثير، ما هو المال الذي يخسره العرب في مراكز أبحاثهم، إذا وُجدت، للرد فقط على عمليات التدمير المنظم؟