أثير- مكتب أثير في تونس
قراءة : محمد الهادي الجزيري
أبدأ التفاعل مع قصيدة ” دروب التّبانة ” لما فيها من شجن شفيف والتفاتة قويّة من الشاعر لما كان منه ومن خلانه ومن هذه الدنيا ..أيّام طفولتهم ..لنقل صباهم المتلاشي فقد أصبح ذكرى بعيدة ..، يستهلّ عبد الرزّاق الربيعي الغناء كأجمل ما يكون ، وذلك بتذكّر أيام كان صحبة رفاقه يمضون إلى المدرسة، ويشير في بداية الشدو الحزين إلى تمسّكهم بأصابع رفقائهم خوفا من التيه ..ويختمها بتمسكهم كذلك بتلابيب المستقبل ..، ففتح للقصيدة أبوابا واسعة لحبّ الوطن وضرورة الطموح والرضا بمشيئة الله ..، ثمّ بعد افتتاحه للقصيدة بالغناء الشجيّ ..يمرّ إلى تذكّر كيف كانوا يقطعون الطريق إلى المدرسة، طريق بلا أشجار ولا ظلال نخيل ..كانوا يعمدون إلى الغناء لتقصير الوقت ومغالبة تعب الطريق ..، هذه القصيدة تعيدني رغم بعد العراق عنّي وعن صباي، تعيدني إلى طفولتي وكلّ ما حفّ بها وما تفتّح فيها ..، أظنّ أنّ هذه القصيدة مفتاح ل” شياطين طفل الستين ” ..مع أنّي أدعو الله أن يطيل عمره ليكتب لنا مزيدا من هذا الشعر الصافي ..:
” بعد سنينٍ
نزلتْ أمطار الليلِ
هوت أعمدة سقوفِ
صفوف الطينِ
المائعْ
جرجرها الطوفان
مع السّبوراتِ
ونشراتِ الحائطِ
للشارعْ
فتفّرقت النجماتُ
بدرب التبانةْ “
قصيدة ثانية شدّتني بقوة وعبثت بي لأنّها تذكّرني بستين سنة من حياتي ..، إنّها ” طفل الستين ” فقد كتبها عبد الرزاق الربيعي بكلّه وبكلّ خليّة فيه ..، استهلّها بسؤال تلقيه امرأة وتريد جوابا عليه ، السؤال هو يا القابع في العتمة ( ككلّ مبدع حقيقي ) وتؤانس وحدتَك وحدك ..، من أين وإلى أين وماذا تفعل ؟ ، هذا هو السؤال أمّا الجواب فقد كان حاسما وشافيا ممّا جعل تلك المرأة تردّ بعدم الفهم ..، خلاصة القول لقد صرّح الشاعر بحقيقة من يهدون حيواتهم للشعر والحيرة والتأملّ والعبث الاختياري ..، فقد لخّص حياته أنّه يتأرجح بين الماضي والمستقبل ..فكأنّ لعبته أرجوحة الفكر والروح والجسد ..، نعم ذاك هو المبدع الذاهب والآتي خلف الكلمات والأفكار والصور ..، ثمّ إنّه لا يكبر أبدا :
” ابتسمتْ
عادتْ تسألني
عنّي
وفصيلةَ جُرحي
عن سنّي
فأجبت:
برغم الأخطاء البيضِ
المنثورةِ في الفودينْ
ورغم الستّينْ
أظلّ برحمِ الأرضِ
جنينْ “
الشعراء توائم ..ربّما، شاعر ما يكتب عن غبار حاق ببلد ما ..، فيزعق آخرون في جهات الأرض : هذا حدث لنا ولبلداننا ، يكنّي عبد الرزّاق الربيعي السماسرة بالجراد ..فأوشك أن أراهم في تونس ..كأنّهم نسخ أصلية لحالات متشابهة، كم على الشعراء حمل ثقيل لا يفهمه إلا المصابون مثلهم بالكلمة الهادفة ..، انتقيت لكم قصيدة ” جراد ” وارتأيت أن لا أحذف منها حرفا ..فهي كاملة متكاملة :
” قلنا: مضى الجرادْ
وضمّدتْ جراحَها البلادْ
وانتحرَ الليلُ
على أبوابها
واندحرَ السوادْ
قلنا: مضى…
وأدبرتْ سنينُها الشِدادْ
فصفّقَ النخيلُ
في سمائِها
وابتهجَ العبادْ
أ بعد ذاك
للجناةِ
والطغاةِ
تُسلمُ القيادْ؟
كي يسوسَها الشذّاذُ
واللصوصُ
والأوغادْ
وفي نهايةِ المطافِ
عند موسمِ القطافِ
تُذبحُ الجيادْ !؟ ”
أختم هذه الجولة السريعة/ المتأنية في ” شياطين طفل الستين ” بقصيدة أخيرة من مختاراتي وهي بعنوان ” لا شيء ” ..، سأعرض منها جزءا لكم ..، فقط أهمس في أذن الشاعر : لا أراك الله حالة مثل هذه الحالة ..، فلا شيء أصعب من التيه والجفاف وفقدان الأمل ..، ماذا أقول ..، طالعوا القصيدة :
” المطرُ يسقطُ
ولا شيء سواه
لا مظلة في الساحة
لا حائط نلوذُ به
لا شجرة
لا ثيابا ثقيلة
تغلق الباب بوجه الزكام
لا شعرا مبلولا
لا وداع
لا هواء في الحذاء المطاطيّ
لا ماء في الفم
لا ريح تحت الطاولة
لا موسيقى
لا صافرة الحارس
لا نباح كلب الجار
لا سواد
في قلب المحبرة
لا كلمات
في الممحاة
المطر يسقط
ولا شيء سواي..”