أثير – د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يمثّل التعليم صمام أمان المجتمعات، وبوابتها الأمنية في التعاطي مع المخاطر والملوثات، والتكيف مع الأحداث والمستجدات، وفي ظل معطيات كونية كثيرة، وأحداث ومستجدات متسارعة تواجهها ناشئة اليوم، وهجمات تستهدف الدخول في مكونات العمق الاجتماعي وبشكل خاص فئة الشباب والمرأة، وعبر ما تروج له المنصات الاجتماعية والفضائيات المفتوحة من شعارات وأفكار تقوم على تنشيط مفاهيم الإلحاد والنسوية والشذوذ الجنسي في المجتمعات، وإغراق أفكار الشباب بهذه الملوثات الفكرية، ومحاولة إثارة هذه الدوافع الغريزية غير السوية باعتبارها حق لكل فرد يعيش في عالم الحريات الفكرية والشخصية والاستقلالية الجسدية، في خروج سافر عن مبادئ الاحتواء الوالدي، والتربية الأسرية، والقيم الإيمانية، والأخلاق والمبادئ السامية التي ميزت الإنسان ورفعت مكانته فوق جميع المخلوقات.
لقد استغلت قسرا التقنيات الحديثة والمنصات الاجتماعية والقنوات الإعلامية في بث هذه الأفكار وترغيب الشباب فيها بأساليب تشويقية تحمل الإثارة وشغف البحث عن ما بداخل هذه المعلبات، الأمر الذي بات يشكل تحديا اليوم على التعليم خاصة ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها من المنظومات المجتمعية نحو الوقوف في وجه هذا العدوان السافر على الإنسانية، والحملة الشرسة ضد الأخلاق والقيم والمبادئ والحشمة والوقار، حتى باتت هذه التوجهات الرعناء والأفكار السوداء والصورة القاتمة للأخلاق والفضيلة، تقرأ في الالتزام الديني والاستقامة الأخلاقية، على أنها نوع من الرجعية والتخلف، محطة يراد منها نزع الثقة لدى الشباب والمرأة بهذه الموجهات القيمية والأخلاقية والثوابت الدينية والهوية والمبادئ الوطنية القائمة على الاستقامة والاعتدال والالتزام والاحتواء والاحترام والاحتشام، وتسييس هذه الأفكار عبر المنظمات الدولية ومنظومات الأمم المتحدة وأجندة الدول الكبرى في إطار نعت القيم والأخلاق والمبادئ الحضارية الإنسانية، بأنها جزء من الفردانية والسلطوية التي يستخدمها الوالدان والأسرة والمجتمع على ما يعوله أو يقع تحت رعايته وحمايته، الأمر الذي بات يضع الناشئة أمام مواقف صعبة وتناقضات جمة ومفارقات عجيبة، أثرت في قناعة الناشئة وعقديتها والتزاماتها– والتي يجب على التعليم أن يقوم خلالها بدوره في تحقيق معادلة التوازن في البناء الإنساني بين حماية الناشئة والمحافظة على وجود القيم وتعظيم الأخلاق الفاضلة في حياة النشء وتحصينه من هذه الآفات والأفكار والتوجهات السلبية بالاستفادة من فرص شيوع المعرفة وتشارك التجارب وتبادل الخبرات.
وبالتالي ما يعنيه ذلك من دور أعمق للتعليم -كما هو دور مؤسسات المجتمع المدني والمنظومات الدينية والوعظية والإعلامية والتشريعية والأسرة والوالدين- في بناء صورة الأنموذج في التعاطي الواعي مع هذا الواقع، وضمان قدرة الناشئة على استيعاب التحولات، والعمل في الظروف، والاستجابة المباشرة لنداء الفطرة السوية، وتحصين الناشئة من التيارات الفكرية الهدامة، ووقايتها من الانحلال الخلقي البغيض، ورفع درجة الوعي والوازع الديني والأخلاقي والثقافة الوقائية الايمانية لديها في مواجهة هذه الهجمات، عبر منتج التعليم ومخرجاته بما يمتلكه النشء من معارف وعلوم، ووسائل وأدوات للمواجهة، وما يحتضنه قلبه وعقله من قيم الإنسانية والخيرية والتفكير الإيجابي والدافعية، والمحافظة على الثوابت والقيم الوطنية، ونزع هاجس الخوف لديه من الواقع المادي وصعوبة التعامل معه أو الارتماء في أحضان المادة والأفكار الداعية إلى أولوية كسب المال والحصول على الثروات والسيطرة على العالم من خلال حجم ما يمتلكه من ملاءة وقدرة مالية، بحيث يضع التعليم في سياساته وبرامجه تشخيص عميق لأثر هذه الهواجس الفكرية والنفسية المرتبطة بتأثير هذه الحملات الدعائية والترويجية الموجهة نحو رفع سقف التفكير المادي للناشئة، وتكوين عقلية مادية برجماتية سطحية بحته هدفها البحث عن المصالح الشخصية والحصول على المال بكل الطرق والوسائل حتى المشبوهة منها، في ظل رواج بيع الجسد والشرف، والمتاجرة في الدين وسب الذات الإلهية والعياذ بالله، أو بالترويج والتشهير بمعاقرة الخمور وتعاطي المخدرات أو غيرها من الممارسات الهابطة، التي باتت تستهدف فكر الناشئة بإغراءات مالية، واغواءات جسدية، تتجه إلى رفع درجة الاهتمام بالدعارة وبيع الجسد، والشهوة والشذوذ والنسوية والمثلية، أو الممارسات الاقتصادية غير الأخلاقية عبر الرشوة والتزوير والابتزاز الإلكتروني والاحتيال وغيرها كثير.
إن على التعليم اليوم أن يرفع من سقف الأهداف العليا في حياة الناشئة، ويؤصل في مداركهم النموذج والقدوة والمثال، والفأل الحس والذوق الراقي ويعزز فيهم هيبة الرجولة والشموخ والعزة والكرامة، ويتجه بهم نحو استدراك الغاية التي خلق من أجلها الإنسان واستحقاقات الاستخلاف في الأرض، فيعدّهم لمرحلة تحول إيجابية في حياتهم، تبعث فيهم الأمل وإشراقة الحياة في ظلال العلم النافع، ويؤطر في مسار تفكيرهم قيمة المنافسة والبحث والابتكار والاختراع، وترك بصمة مهمة في الحياة تظهر على شكل إنتاج علمي قادر على إعادة تصحيح المسار، ونقل هذه القيم والمعاني في واقع حياة الناشئة، فيوجه بوصلة تفكيرهم نحو الاهتمام بأعالي الأمور، ورفيع المنازل، وبكل ما يؤسس في الناشئة القوة والنضج والوعي والصلاح والإصلاح، والاعتماد على النفس، ويسمو بفكرهم فوق دركات السقوط الأخلاقي والتفكير الشهواني، ويرقى بضمائرهم لتحلّق في عالم المبادئ والأخلاق والإيمان، في مواجهة مفاهيم الخنا والميوعة والشذوذ الجنسي والإلحاد والتفسخ والانحلال والسفور والمثلية والسقوط والنذالة التي باتت تروج لها هذه المنصات بصورة منهجية، وتتخذ في سبيل تحقيقها قرارات على مستوى المنظمات الدولية في خروج سافر عن كل معاني الإنسانية وضرب بحقوق الإنسان عرض الحائط.
وتبقى قدرة التعليم اليوم على المواجهة مرهونة بما يمتلكه من أدوات التغيير، وتنوع مسارات العمل، وتجدد أدوات الإنتاج، وارتفاع سقف التوقعات فيه، والثقة التي تصنع منه خيوط التقاء ومشتركات للبناء، لتتجه مسؤوليته نحو صناعة الإنسان بكل محتوياته، قلبه وعقله، وثقافته ومنطق تفكيره، وإنجازاته ومبادراته، فيؤسس في الناشئة ملامح القوة والتضحية والمنافسة، ويوجه الممكنات والفرص والميزة التنافسية التي يمتلكها التعليم عال الجودة، النفسية والفكرية لصالح تشكيل شخصية المواطن وبناء مكونات القوة فيها، بحيث تضع الجامعات والمدارس في سياساتها وبرامج أولوية العمق الإنساني، وبناء الشخصية العمانية المتكاملة، التي تسطر أروع النماذج وتجسّد الصورة المشرقة الحاملة في ذاتها لقيم المواطنة والهوية، والتعايش والحوار، والعمل والإنتاج، وصدق الذات والثبات على المبدأ، والرقي الذاتي والانطلاقة الفكرية والشغف والطموح، وتتجه إلى سبر العمق البشري وقراءة التفاعلات الحاصلة في الصندوق الأسود، وفهم الفطرة الإنسانية وترقية السلوك، وضبط النوازع الذاتية، وحفز الناشئة نحو امتلاك أدوات التغيير، والمحافظة على درجة التوازنات في حياتها، وإعادة هندسة الواقع وتصحيحه، واستنطاق القيم الإيجابية والأخلاقيات الكامنة في النفس وتجسيدها في الممارسة اليومية، واستنهاض حس المسؤولية والعزيمة والإرادة وتوجيهها نحو صناعة التحول الشامل، والتأثير القوي على الواقع، وامتلاك القدرة على توجيه بوصلة أشرعته والتأثير فيه، ويستفيد من كل المعلومات والأفكار التي تعلمها، ومواقف المحاكاة التي عايشها في بيئة التعليم والتعلم بما يعزز فيه حسن التصرف، وحس بناء الهدف، والتعامل مع العواصف النفسية والفكرية التي باتت تؤرق حياته، وتلقي عليه ثقافة الوهن والخوف والسلبية أحيانا، والتمرد والاستهتار في أحايين أخرى.
أخيرا تبقى تفاهات بعض المغردين والغوغائية والإفلاس الذي بات يلاحقهم، حول الناشئة ودور التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية في تجديد كفاءة خطوط الدفاع النفسية والفكرية والمعرفية في مواجهة هذه الهجمات، والحصانة الذاتية الإيمانية التي باتت تغيظهم وتزلزل أقدامهم لما يسعون إليه من حب إشاعة الفاحشة والرذيلة في شباب المجتمع وشاباته، محاولة يائسة منهم في تحويل أنظارهم عن الأهداف العليا وشغف الإنجاز وعرصات البناء وفرص المنافسة، غيظا وحقدا وكرها، وما تتفوه به ألسنتهم من أن تعليم الناشئة معاني الرجولة والإقدام والمهابة والاعتماد على النفس وإدخالهم في برامج تعلم الفروسية ومشاركاتهم في عرضات الخيل وسباقات الهجن وتعويدهم على المبادرة والعمل التطوعي والعمل في ظروف ومتغيرات صعبة خاصة في وقت الأزمات وتحمل انقطاع الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وشوارع، وأنها تتنافى مع حماية الناشئة من المخاطر أو حماية حقه في توفير الخدمات له في كل الظروف، وعدم تحمله نتائج هذه الأنواء المناخية أو صبره على الانتظار لحين عودة الأمور إلى نصابها، ضروب من التجني على الهوية والرجولة والفضيلة والقيم، والنزوع للإفلاس الفكري والخوار الروحي، وشيوع المحتوى الهابط وانتزاع قيمة الصلابة والعزة والكرامة من الشخصية لتتجه إلى تمييع الناشئة وانسلاخها من مبادئها وأخلاقها، والعياذ بالله، فهل سيقرأ التعليم في هجمات الانحلال الأخلاقي والنفوق القيمي الموجه للناشئة، محطة له لإعادة إنتاج ذاته، وتفعيل أطره، وبناء مناهجه، وترقية أدواته، وتأصيل القوة والمهنية والجودة في محتواه، حصنا يحمي الناشئة من الانحراف ودركات السقوط والانتكاسة، ومددا يسمو بها فوق دركات الخلاف، ومسارا يجنبها السلبية والاتكالية والاستهتار ويبعدها عن الشطط ومزالق الريب؛ ومبادئ أصيلة تعيد خلالها الناشئة اتخاذ قرارات جريئة، في ظل موجات التغريب والإلحاد والنسوية وزيف الحريات، بما باتت تستبيحه من حقوق الناشئة، في ظل ارتفاع مؤشرات جرائم القتل والاعتداء والاغتصاب والتحرش الجنسي وانتهاك الأعراض وعقوق الوالدين وغيرها من إرهاصات السقوط الأخلاقي الذي بات يتعرض لها ناشئة اليوم؟