أثير – د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
أصدر حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه قانون الحماية الاجتماعية بالمرسوم السلطاني (2023/52)، تعزيزا لمنظومة الحماية الاجتماعية الشاملة والمتكاملة بما يسهم في الارتقاء بجودة الحياة وتعزيز الاستثمار في المجتمع، وحفاظا على حقوق الأجيال الحالية والمستقبلية؛ وقد تضمن نظام الحماية الاجتماعية جملة من البرامج التي يشرف عليها صندوق الحماية الاجتماعية الصادر بالمرسوم السلطاني (33/ 2021) باعتباره الجهة الرسمية المسؤولة عن برامج الحماية الاجتماعية في سلطنة عمان، مهمته تطبيق أحكام قانون الحماية الاجتماعية والتشريعات ذات الصلة، حيث جاء من بين منافع الحماية الاجتماعية التي يقدمها الصندوق “منفعة الطفولة” دعما للمجالات المرتبطة بالتعليم المبكر والرعاية والتغذية، حيث يوفر البرنامج دعما ماليا شهريا للأطفال العمانيين المقيمين في سلطنة عمان منذ الولادة وحتى سن 18 عاما، قدره (10) ريالات عمانية تصرف للطفل ابتداء من شهر الولادة.
إن الحديث عن منفعة الطفولة يضعنا أمام حدث تاريخي في البناء الاجتماعي، ونقلة نوعية في بناء الإنسان وتعزيز فرص الاستدامة في الحقوق وتكافؤ الفرص، ويعكس تحولا جذريا في انتقال هذه الحقوق من الإطار المعنوي إلى أن أصبح لها حضورا في الواقع المادي المعيشي، ولم تعد مسألة الحماية المقدمة للطفولة في سلطنة عمان مقتصرة على جملة الحقوق المعنوية في القوانين والأنظمة الوطنية أو اتفاقيات سلطنة عمان حول حقوق الطفل، بل تجسدت في أبعادها العينية أيضا من خلال المنفعة النقدية المقدمة للطفل، بحيث تصرف كحالة فردية وبشكل شخصي، لتصبح استحقاقا وجوبيا يمنح لكل طفل في سلطنة عمان حقق شرط كونه عمانيا وإقامته في سلطنة عمان حتى سن 18 عاما، وبالتالي ما يمكن أن يحمله هذا الاستحقاق اليوم من إثر إيجابي على حياة الطفولة العمانية، والصورة المشرقة التي تولّدها في فكر الأجيال وثقافة الناشئة، والحرص السامي لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم على أن تنال الطفول حقوقها بشكل متوازن مع غيرها من فئات المجتمع، وأن الطفولة العمانية في عين القيادة واهتمامها، ورعايتها وعنايتها، إيمانا من القيادة الحكيمة بأن أطفال اليوم هم رجال الغد وبناة المستقبل، وأن الصورة التفاؤلية المشرقة التي ترتسم في وجه الطفولة وهم يتقاضون هذا الاستحقاق، لتصنع فيهم روح الإيمان بالوطن، والولاء لجلالة السلطان، وتعظيم مفهوم أعمق للمشاركة الأسرية والمجتمعية، وحفظ الحقوق والتثمير في الموارد، الأمر الذي سيكون له مردوده على إنتاجية الطفولة، ومسار تفكيرها، وتعظيم فرص تلقيها لأفضل الفرص التعليمية والتدريبية والرعاية الصحية والنفسية، والعناية الأسرية وحصولها على مستويات عالية في جودة الحياة وبرامج التعليم والتأهيل.
إن ما تشكله مرحلة الطفولة من أهمية في حياة المجتمعات وبناء الأوطان منطلق لتأسيس القوة فيها، وبناء مسارات نهضتها وتقدمها وتطورها، والمرتكز الأساسي الذي تقوم عليه أي تنمية تنشد الوصول إلى أهدافها، وبقدر ما تمنح الدول والمجتمعات الطفولة الاهتمام الكافي والإعداد الملائم والتطوير النوعي، والتعليم الهادف، وتوفير كل الفرص والأدوات والتشريعات التي تمنح الطفولة فرصا أكبر للتعبير عن ذاتها وإبداء رأيها، أو كذلك ترفع من قدراتها واستعداداتها بالمشاركة في صناعة التنمية الوطنية بكل سلاسة ومهنية، -ليصل الأمر إلى أن تقدم للطفولة منفعة نقدية شهرية-؛ كلما انعكس ذلك على قوة المجتمع وقدرته على التعاطي الواعي مع كل الأحداث والمتغيرات التي تعيشها الطفولة، وحصولها على التربية السليمة والرعاية المتكاملة والاهتمام الكافي، خاصة في ظل ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وما يتبعه من استشعار الطفولة لدورها في المشاركة الأسرية، الأمر الذي يمثل تحولا نوعيا يكسب الطفولة ثقة أكبر في قدراتها واستعداداتها وتمكينها من ممارسة دورها الحياتي ومشاركة الكبار في البناء والتطوير والإنجاز؛ فإن ما تمثله الطفولة في سلطنة عمان من رقم صعب وحضور مهم في كيانات المجتمع وديمغرافية السكان، عزز من اهتمام الحكومة بهذه الفئة في رؤية عمان 2040، وهو المبرر الذي انطلقت منه موجهات منظومة الحماية الاجتماعية في تشخيصها للحالة العمانية وارتباطها بالواقع المعايش؛ حيث تمثل الطفولة في مجتمع سلطنة عمان قيمة مضافة وحضورا نوعيا، مما جعل مؤشرات الطفولة في سلطنة عمان تتحسن بشكل كبير، وتشير إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لعام 2020 إلى أن عدد الأطفال العمانيين (0-17) سنة في سلطنة عمان بلغ أكثر من خمسي العمانيين حسب تعداد 2020، حيث شكل الأطفال في هذه السن ما نسبته (43%) من إجمالي العمانيين عام 2020 م، وأن نسبة النوع بين الأطفال العمانيين 104 ذكورا لكل 100 أنثى حيث يمثل 4 أطفال لكل 10 عمانيين، وبلغ التوزيع النسبي للأطفال العمانيين حسب النوع من واقع بيانات تعداد 2020 م (51%) للذكور و(49%) للإناث؛ وأن الأطفال الرضع والأقل من 5 سنوات شكلوا الفئة العمرية الأعلى بين الأطفال، حيث بلغت 34% من إجمالي الأطفال، كما بلغ نسبة الأطفال في هذه الفئة –أقل من 5 سنوات- حسب النوع، 44% نسبة الأطفال الذكور من إجمالي الذكور العمانيين، و 43 % نسبة الإناث الأطفال من العمانيات، وهي مؤشرات تعكس حضورا نوعيا للطفولة في مسيرة البناء الوطنية وضرورتها في تحقيق مستهدفات رؤية عمان 2040، وتستدعي المزيد من الجهود على مختلف الأصعدة التعليمية والاجتماعية والرعاية الصحية والبرامج التوعوية والتثقيفية والإعلامية والأسرية وغيرها كثير، وتحولات وإستراتيجيات وسياسات أكثر نضجا ترعى الطفولة وتحافظ على كيانها، وتعلي من سقف توقعاتها، وتبني أحلامها وتصحح المفاهيم المتداولة لديها، وتصنع القوة في المنتج الطفولي بما يوفره من فرص ويصنعه من منجزات، بالشكل الذي يعزز من حضورها في واقع المجتمع ويؤسس لها كيانها في إستراتيجيات التنمية الوطنية.
إن ما يعيشه عالم الطفولة اليوم من أحداث ومتغيرات وظروف وتناقضات، وما تحمله هذه المتغيرات من تأثيرات على مستقبل الطفولة، بما ينتج عنه من ظواهر سلوكية تولد فرصا أكبر لحوادث التنمر والعداء والاعتداء والكراهية، فإن نظام الحماية الاجتماعية يمهد الطريق لدور أكبر في بناء أطر إستراتيجية لحماية الطفولة العمانية، وهي حماية تتجاوز بلا شك المنفعة النقدية إلى برامج ومنافع غير نقدية أخرى، وأن تكون المنفعة النقدية ذاتها مرحلة لإعادة هندسة الطفولة والارتقاء بها وتعزيز الأبعاد الفكرية والنفسية والقدرات والاستعدادات والتوجهات التي هي بحاجة إلى المال من خلال تعريض الطفولة لبرامج تدريب وتثقيف، وبناء القدرات والمهارات، لتكون منفعة الطفولة من أهم مدخلات التحول القادم في بناء قدرات الطفولة العمانية، وتأسيسها تعليما وتدريبا وتثقيفا وصحة نفسية؛ فإن نظام الحماية الاجتماعية بهذا المفهوم يحتوي الطفولة، ويطيب خاطرها، ويصنع حضورها في عالمهم، ويقلل من حجم التأثير النفسي والفكري لهذه الأحداث على حياة الطفولة ومستقبلها، فأطفال اليوم شباب الغد، فيبني فيهم إرادة الحياة والأمل، والحب والسلام والتعايش، لذلك كان تعزيز المنفعة النقدية لهم فرصة في رفع سقف التحولات الإيجابية في حياة الطفولة العمانية بحصولها على التعليم الجيد وهو أمر يتناغم مع ما أكد عليه قانون التعليم المدرسي الصادر بالمرسوم السلطاني (31/ 2023) حيث جاء في المادة( 22) تكفل الدولة الحق في التعليم المبكر، والمادة (23) تراعي مرحلة التعليم المبكر وتوفير بيئة دراسية مناسبة، تهيئ للطفل تربية متوازنة، تشمل الجوانب الشخصية والجسمية، والذهنية والدينية، والاجتماعية، وتساعده على تنمية الاستعدادات المعرفية، وتكوين العادات الصحية السليمة، وتنمية علاقاته الاجتماعية، وتعزيز الاتجاهات الإيجابية، والارتباط بالمدرسة”.
إن نظام الحماية الاجتماعية استلهام للحرص السامي لجلالة السلطان المعظم على أن تنال الطفولة العمانية حقوقها كاملة منذ ولادتها، وأن يكون لها الحق في موارد سلطنة عمان وثرواتها، وخيرات هذا الوطن الغالي ومنجزاته وعطائه؛ تأكيد لمفهوم استدامة الموارد للأجيال؛ ليصبح نظام الحماية الاجتماعية في لحن الطفولة أكبر من مجرد منفعة مادية؛ مساحة أمان تنتفض في الطفولة روح التغيير، وتجسد فيها قيم المواطنة، وتغرس فيها حب عمان وجلالة السلطان، وتؤسس فيها مفهوم المشاركة وتقاسم المسؤوليات، والانطلاقة من هذا الاستحقاق لمرحلة المشاركة في البناء، فـ “إن الانتقال بعمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتى المجالات، سيكون عنوان المرحلة القادمة بإذن الله”، وعد يجسد حكمة القائد المفدى حفظه الله ورعاه وهو يؤسس في حياة العمانيين مرحلة السلام الداخلي والأمان النفسي، ما يحفظ حق الطفولة في العيش الكريم، والتفكير الأمن، والتعليم الجيد، والرعاية الصحية المناسبة، والممارسة التأملية التي تصنع فيهم القدوات والنماذج، وتبني فيهم روح التجديد، ليشكّل نظام الحماية الاجتماعية بذلك لغة جامعة تحوي الطفولة، وتضمن لها مسارات العيش في أمن وأمان واطمئنان، لرسم البسمة في وجوههم، وتقريب صورة الواقع الإيجابي لديهم في ظل مواقف محاكاة عملية يستشعر فيها الطفولة مساحة المراجعة التي يستقطعها الوطن من أجلهم.
أخيرا فإن نظام الحماية الاجتماعية الذي حرص جلالة السلطان المعظم على أن يشكل نقلة نوعية في تحقيق السلام الداخلي والأمان الذاتي، محطة اتجهت نحو تحقيق هذه التوازنات وجسدت في معالمها مستهدفات رؤية عمان2040 في محور الإنسان والمجتمع، وأولوية الرفاه والحماية الاجتماعية من أجل “مجتمع إنسانه مبدع معتز بهويته، مبتكر ومنافس عالميا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام” إيمان من جلالة السلطان بموقع الطفولة في السلم الاجتماعي، والقيمة الاستثمارية النوعية التي تحدث عنها في لقائه بالمواطنين، بما حمله من دلالة الاستثمار في الطفولة لمستقبل الوطن والمواطن، ويبقى نظام الحماية الاجتماعية استثمار طويل الأمد في الأبناء والطفولة، فهنيئا للطفول العمانية هذا الاستحقاق، وشكرا لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم على هذه الالتفاتة الأبوية الحانية لأبناء عمان المستقبل.